إشراقـــــة
من كتابنا – الصدر الشهيد لمن ألقى السمع وهو شهيد –
يقول السيد الشهيد محمد الصدر (أعلى الله مقامه) في كتاب فقه الأخلاق: (إن العقوبات الدنيوية ليست عقوبات بالمعنى الكامل. بل هي لمجرد إلفات النظر, مقدمة للإستغفار والتوبة, ومن هنا قال سبحانه: { لعلهم يتذكرون})-27 الزمر-.(فقه الاخلاق ج1).
أقول: ما طرحه سماحة السيد الشهيد يُغير نظرتنا للعقوبات الدنيوية؛ حيث النظرة العامة أن العقوبات التي تصيبنا هي جزاءٌ لِما اقترفنا من خطايا، بمعنى آخر تُسقِط العقاب الأخروي، ولكن الظاهرَ من قول سماحته هو غيرُ ذلك، وهو أن العقاب الأخروي لا يَسقط بالعقاب الدنيوي أو على أقل تقدير ليس كل عقاب دنيوي يُسقِطُ الأخروي وقد يُؤيد ذلك قوله تعالى: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} -21 السجدة- والعذاب الأدنى هي العقوبات الدنيوية والعذاب الأكبر هي العقوبات الأخروية, لعلهم يرجعون عن غيهم وغفلتهم عن ربهم وواجباتهم. فيكون العقاب الدنيوي هو نحو من الرحمة الإلهية الدافِعة للإقلاع عن الذنوب والمُنبِهة من الغفلة والتي هي أساس الذنوب, ولا تتحقق فائدة هذه الرحمة إلا حينما تكون ردة فعلنا صحيحة تجاه هذه العقوبات, أما لو كانت ردةُ الفعل خاطئة فسوف تكون هذه العقوبة حُجّة علينا أمام الله سبحانه، حيث أن ردة الفعل المناسبة هي الإلتفاتُ ومن بعدها الاستغفار والتوبة.
وبالمقابل كذلك، فإن بعض ما يَهِبهُ الله تعالى للعبد حين القيام بالأعمال الصالحة ليس هو جزاءٌ لعمله، إنما هو نحو من الإقرار الإلهي بصحة العمل، والتحفيز والتشجيع على الاستمرار بهذا العمل المُستَحسن لدى الله جل جلاله, إلا في حالة واحدة وهي أن الفرد يُؤدي العمل الصالح لأجل غايةٍ دنيويةٍ فيُعطى تلك الغاية وليس له في الآخرة من نصيب حيث يكون مشمولاً بقوله تعالى: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} -20 الاحقاف- أما المحاسبة الحقيقية فهي يوم الحساب.
ورُبَّ سائلٍ يسأل: لماذا يتخذ الله جل وعلا أسلوب العقوبات لإلفات النظر، ولا يتخذ ما هو أسهل وأهون على الغافل أو المُقصر؟.
وجواب ذلك: إن الله تعالى يتخذ شتى الأساليب لإيصال الإنسان إلى هدفه الذي وُجِد من أجله، إلا أنّ المُتحكم بأسلوب الإلفات هو الإنسان نفسهُ وليس الخالق، وذلك يرجع لمستوى غفلته وانغماسه برذائله وأمراضه، فإن كان الفردُ مُنغمِساً انغماساً كلياً يصعب حينئذ أن يلتفت بكلمة أو موعظة، إنما يكون العلاج الناجع لرجوعه وصحوته بعقوبة أو بَليّة يكون من شأنها إرجاعه إلى واقعه، أما إن كان العلاج أقل وطأة من المرض فسيكون التداوي به عبثاً.
أما إن كانت الغفلة أو الإدبار بدائيٌ وبسيطٌ فسيكون التنبيه والإلفات ربما بكلمة أو آية أو موعظة يسمعها في خطبة أو مجلس أو كلمة تخرج من لسان طفل، لِما لا؟! ولله تعالى أن يختار الأسلوب الأنسب لعباده، ليس فقط في التنبيه بل في كل شيء من التشريع والبيان والتعليم وغيرها مما يرى فيه سبحانه مصلحةً لعبادهِ.
فالذي نفهمه من طَيّات كلام السيد الشهيد هو أن على العبد أن يكون مُنتبهاً ومُتيقظاً لكل ما يواجهه، فإن أصابه شيء فليرجع إلى نفسه ولينظر ما الذنب الذي اقترفه حتى جاء ما جاء من العقاب والبلاء.
ومن المعيب والمشين على الفرد وخاصةً المسلم أن يغفل عن خالقه ومُدّبر أمره ويلتفت إلى الأسباب ويتعلق بها، فمثلاَ فتراهُ عندما يمرض يبحث عن سبب ماديٍ يُرجع إليه ذلك المرض! هل هو البرد ؟ أم هو نقصٌ في الغذاء؟ أم ماذا؟ لا، لا هذا ولا ذاك، إنما هو الله جل جلاله مُسبب الأسباب، فانتبه لما قدَمَت يداك وجَلب إليك هذا الوبال، واستغفر لذنبك فالحبوب لا تُزيلُ الذنوب! إنما يُزيل الذنوب الالتفاتُ والتوبةُ ليس أكثر { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}.-87 النساء-.
فلو لم تكن هذه العقوبات موجودة، ماذا ستكون النتيجة؟ قطعاً ستكونُ مزيداً من الذنوب والانغماسِ بالملذات النفسية الدنيوية، ليس أقلُ من ذلك.
إذن هذه العقوبات تستحقُ الشُكر وليس الجَزع، وكما يقول سماحة السيد الشهيد: (إن من طبيعة النفس اللجوء إلى الله تعالى حين البلاء ).
وأما إذا التفت الفردُ إلى هذه العقوبات ولم يجد أنه مذنبٌ لكي يَستحقَها – وهذا نادرٌ نوعاً ما – فستكون هذه ليست بِعقوبة وإنما هي من باب التمحيص أو التطهير أو غيرها؛ لأجل زيادة الحسنات وعلو الدرجات {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} – 6 المائدة – وليس لعلكم تجزعون! { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} – 154 آل عمران- فيكون هذا الابتلاء هو لأجل أن يُمحص الله تعالى ما في قلب الإنسان ويُخرجُ ما في صدره، فهو داعية لاستخراج ما في مكمن نفس الإنسان، عندها يكون هذا البلاء كذلك يستحق الشكر، ولولاه لما تقدم الإنسان خطوة واحدة مهما أُوتِيَ من إخلاص.
ففي كلتا الحالتين، أي في العقوبة التنبيهية أو التمحيصية الاختبارية، فإنه يجب أن يكون رد الفعل مناسباً، ففي الأولى تكون ردة الفعل المناسبة هي التوبة والاستغفار وفي الثانية النجاح في الاختبار.
فإذا نظر الفرد إلى العقوبات والبلايا والمصاعب بهذه النظرة فقد قطع شوطاً في إزالة الغفلة وقد التفت إلى بعض ما أُريدَ منه.
إذن نستخلص من قول السيد الشهيد (أعلى الله مقامه) أمور التالية:
أولاً: إن العقوبات التي تصيب الفرد في الدنيا هي من أجل أن يلتفت إلى ما ضيع في جنب الله جل جلاله.
ثانياً: أن تكون ردة الفعل تجاه العقوبة صحيحة وهي التوبة والاستغفار.
ثالثاً: أن يتفكر ويتذكر الفرد ويحاسب نفسه لكي يرى سبب العقوبة.
رابعاً: أن يشكر الفرد ربه عز وجل على هذا الاهتمام الإلهي به.
خامساً: أن لا يعيش الفرد بمعزل عن ربه ويَنسِبُ ما يُصيبه إلى الأسباب الطبيعية؛ كي لا يكون مُشرِكاً بالشِرك الخفي { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} -22 الحديد-.
سادساً: أن تكون هذه العقوبات داعية لذكر الله تعالى وعدم الغفلة عنه.
وفي قول سماحة السيد أمورٌ أكثر من ذلك متروكة للمتفكر.
والله يقول الحق وهو يُهدي السبيل
منتظر الخفاجي
2006