الباب السادس والعشرون
التناقض الوهمي في القرآن وعلتـه
من الملحوظ إن البعض عند قرأته للقرآن يجد شبه التناقض أو التزاحم أو التضاد الظاهري بين بعض آيات القرآن.
ورؤية هذا التناقض -إن صح أن نسميه بذلك- يؤدي إلى نتائج يصعب على الإنسان تحملها عند عدم معرفة العلة، وأحياناً يؤثر على اليقين ويضعفه، حيث إن القرآن من أقوى الأساليب لتثبيت اليقين وللوصول من خلاله إلى بعض المعارف التي تلازم معرفة أفعال أو صفات الحق، وبالتالي فهو أقوى الأساليب لزحزحة اليقين بأي جانب.
وقد اجتهد المفسرون والمهتمون بعلوم القرآن لأجل إزالة هذا التناقض الظاهري وأسقطوا أكثر موهمات التناقض في القرآن من خلال إيجاد مخارج تتحد بها الآية والأخرى دون أن ينقض البعض الآخر، ولكن لم يتسنَّ لهم حل جميع المشكلات لان بعض التناقض يصعب تخريجه وخاصة في المتشابه البسيط منه، فإما أن تترك الآية أو تعطي تفسيراً اقل من استحقاقها مما يبين ركاكة في التفسير أو التخريج ومنه ظلم الآية استحقاقها.
إن اغلب الآراء التي طرحها العلماء هي تأويلات عقلية ظاهرية أدت إلى تناقض ما فوق الرأي الذي وضعوه، أي أنهم جعلوا من التناقض تناقضاً دقيقاً لا يلتفت إليه متوسطي الإدراك، لكن ما فوق ذلك فالتناقض موجود. والسبب في ذلك أن العقول الظاهرية خاضعة للتأثير النفسي وبالتالي مقطوعة الصلة بالعقل المعنوي، لوجود الصلة الترابطية التي أوجدها الإنسان في الغفلة، وكذلك وجود الأفكار الوهمية والركائز الخيالية الخاطئة التي تؤدي بنظامها إلى البُعد عن حقيقة الآية أو واقعها، فيكون من الصعب الخروج بأي فكرة جامعة أو تأويلٍ مطابقٍ إلا بعد التجريد العقلي من التأثير النفسي، أو الفصل النفسي العقلي ولو في حال تأويل الآية لا أكثر، أو الوصول للواقع العقلي لمن كان أهلاً لذلك. إن المستويات القرآنية أو مستوى الوصول إلى كمال الكتب السماوية، أعني الوصول إلى عالم صدور الكتب السماوية يحتاج فيه الإنسان إلى أن يخوض في هذه المستويات لكي يعرف الحكمة من وجود هذا التناقض سواء أكان في القرآن أم في القارئ ونفسه أم في منطلقات الفهم أي الثوابت العقلية. وهي مستويات عديدة من الصعب الحكم عند كشف مستوى من مستوياتها، لا بل لا يتيسر الحكم إلا عند الشمول.
أما إذا نظرنا من زاوية عرفانية فسنرى إن شمولية القرآن غير مانعة من دخول المتغيرات؛ بل غير مانعة من دخول أي شيء سواء كان في الظاهر أو ما حواه من بطونه ومستوياته. إذا نظرنا من جهة ما ولنقل هي:
المستوى الأول: فسوف لا نرى أي تناقض في الآيات القرآنية عند التحقيق، إنما التناقض هو من الأفكار الوهمية الموجودة في عقل الإنسان، فالعقل معرض لطروء أفكار وهمية اكتسبها من معنويات الدنيا، تكون لها سيطرة على العقل من خلال زرع قواعد وهمية توجب الاعتماد العقلي عليها عند المسير بالتفكر؛ لذلك نرى أن بعض القرّاء يجدون تناقض في آيتين وبعضهم لا يجد ذلك التناقض، ويعتمد هذا الاختلاف على كثرة الأفكار ومدى عمقها وهيمنتها على العقل فعند وصول الإنسان إلى آية معينة تحتم عليه أن يرى ذلك التناقض بالاستعداد الوهمي، فالحتمية ليست من الآية إنما كانت الآية أسلوباً لإخراج الأفكار الوهمية من العقل، وإلا لو لم تكن هناك فكرة وهمية لما حكم بالتناقض. فيكون السبب في الإنسان نفسه لا في القرآن فيعكس صفاته النفسية على الآية ويكون هو المؤثر بالآية وليست هي المؤثرة به.
المستوى الثاني: وهو إن نظرنا إلى الظاهر الاستقلالي فسوف نقول بوجود شبه التناقض في القرآن، وبمعنى أوضح أن بعض الآيات توهم بوجود تناقض، وهو مقصود، وكما قلنا إن حلقة الربط البعيدة بين الآيات والتي يصعب رؤيتها من النظرة الأولى جعلت الإنسان يحكم بالتناقض. وأما حقيقة التناقض فهو أن تنقض الآية آية أخرى من جميع الجهات والأحوال والمستويات، فإذا اتحدتا من حال أو جهة أو مستوى فليس من تناقض. وبعض الآيات ربما يصعب إيجاد الرابط في المستوى الظاهري لها ولكن لو تعمق الإنسان أو انتقل إلى مستوى أخر لوجد اتصال بين الآية والأخرى، هذا في المستوى الظاهر فضلاً عن الباطن. ولنأخذ توضيحا لذلك وهو قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ |المـائدة: 105| ثم يقول في مورد آخر: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ |آل ِِعمََران: 104| ففي المستوى الأول من مستويات الظاهر يعتبر هناك تناقضاً حيث أمرٌ ونهيٌ في موضوع واحد، ولكن لو تقدمنا خطوة لانتفى هذا التناقض، وهذه الخطوة هي إن نزول القرآن على كل المستويات، أي إن آيات القرآن كانت على كل المستويات المحتملة عقلاً وصولها إلى القرآن على مستوياته.
فالآية الواحدة تكلم عدة مستويات من الناس، فمن ذلك تكون الآية الأولى تكليف لمستوى من مستويات النفوس، وهم أصحاب الاستعداد المحدود بالفعل المتضمن بالآية، أما الآية الأخرى فهي على مستوى أعلى من الأول من مستويات الإيمان، وأصحاب الآية الأولى ليس لهم استعداد لتحمل الآية الثانية مما يوجب بالفعل أن يختلف تكليفهم عن غيرهم، وقول الرسول الأعظم للإعرابي (أعقلها وتوكل) هو على مستوى استعداد الإعرابي إذا أُخذت من هذا الجانب أما لو كان غيره من أصحاب اليقين لما قال له الرسول ذلك، حيث العقل ينافي التوكل. لان ظاهر قول الرسول ينافي ظاهر قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ |الطلاق: 3| وحسبه أي لا يحتاج لغيره لا العقال ولا الرباط! ولكن العلة في ذلك إن الإعرابي ليس مستواه التوكل لعدم وجود اليقين الحقيقي، وهو ليس خاص بالإعرابي بل كل من كان في هذا المستوى فتكليفه هو عين تكليف الإعرابي. فيكون نزول الآيات على عدة مستويات وليس على مستوى واحد وإلا لكان القرآن خاص بمن كان في ذلك المستوى. والشيء الآخر هو أن القرآن حي وحياته هي التي تجعله يتماشى مع تصاعد المستويات البشرية، وان كانت حياة من نوع آخر تتناسب وعالمه.
ومعرفة التناقض سواء كان حقيقياً أو وهمياً، أو من وضع الإنسان أو وضع الحق سبحانه، وكذلك ظهوره في مستوى من الآية واختفاءه في المستوى الآخر لنفس الآية، فهذا يعتمد على معرفة القرآن والتي تعتمد على معرفة الحق سبحانه، ولا اقصد بالمعرفة هنا التصاعدية أي التي اعتمدها المتكلمون وأصحاب النظر لأنها معرفة ناقصة وهي التي أوصلت إلى رؤية التناقض. ونقصها في معرفة الكامل عن طريق الناقص أو قل معرفة الأعلى بالأدنى، وهذه المعرفة لا تعطي نتائج كاملة، أضافة إلى ذلك إن معرفة الحق من خلال الآثار لا توصل إلى الحق إنما توصل إلى معرفة الصفات إذ الآثار ناتجة عن الصفات لا عن الذات، وكما بين ذلك الإمام الحسين (ع) حيث يقول في دعاء عرفة: (كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك! عميت عين لا تراك …… الدعاء). نعم يتيسر للإنسان شيء من معرفة القرآن عن هذا الطريق وغير القرآن كذلك ولكنها معرفة بسيطة لبعض مستويات باطن الشيء أو معرفة ظاهر باطن الشيء، ولكن ليس حقيقة الشيء فالحقيقة لا تكون في عالم الوهم.
إنما تكون المعرفة الشمولية للقرآن والاطلاع على أسراره والوقوف على علل التشابه فيه عن طريق المعرفة التنازلية. وأعني بها معرفة الخلق عن طريق الحق والتي هي معرفة عملية، فيها يعرف الإنسان الحق ثم ينزل إلى معرفة آثاره، فتكون فيها معرفة الخلق معرفة كاملة بوصول الإنسان إلى الكمال، لان الموجودات مفتقرة للحق سبحانه في وجودها وفي كل كمالاتها، فافتقار الشيء للوجود الإلهي هو من اجل وجوده كما في الدعاء السابق (في وجوده مفتقر إليك).
فإذا وصل الإنسان إلى معرفة الحق تسلط على الآثار الإلهية ومنها معرفة القرآن وأسراره.
أما العلة من إيجاد هذا التناقض لو صح أن نسميه تناقض أو قل صعوبة إيجاد الرابط، فهي لا تخرج عن مصلحة أهل القرآن أكيداً، إذ الآيات القرآنية ليست متوقفة على مستوى فهمها الأول إنما الآية عبارة عن مستويات فهوم متصاعدة تُصاعِد الفرد بتصاعدها أو قل بما ينفتح من مستوياتها، وهذا ما يظهر من نتائجها. وطبيعة التناقض يوصل إلى غاية معينة من خلال ذلك التناقض الذي يراه الإنسان، وهذا أسلوب من أساليب الحق التي استخدمها في القرآن الكريم، لان التناقض الظاهري يوجب الدخول في الباطن أي باطن الآية.
وأحياناً يجعل الحق في الآيات شيء يثير الانتباه أو يجعل صعوبة في الفهم الظاهري، وكل ذلك من أساليب الجذب لمستويات باطن القرآن، ومثال على ذلك قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ |النســاء: 57| ثم يقول في مورد آخر: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ |هود: 107| ففي مستوى من مستويات الظاهر هناك اجتماع في مفهوم الآيتين ولكن في مستوى آخر هناك تناقض. ففي الآية الأولى خلود أبدي بمعنى أنهم يؤبدون فيها وليس من خروج، أما في الآية الثانية فليس من أبدية إنما خلود مجرد، والخلود هو اللبث الطويل سواء كان شهر أو سنة أو مئة سنة أو غير ذلك، فالفائدة من هذا التناقض وهو محور كلامنا، الوصول إلى معرفة معينة يريد أن يُعرِّفها الحق لعباده، والشيء الآخر إن السماوات والأرض لا يدومان بالدوام الأبدي لأنه يقول جل شانه: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ |إبراهيم: 48| أي إن الكافر لا يخلد في جهنم، هذا وجه.
والوجه الآخر، أن لكل شيء كماله، فكل المخلوقات تسعى لكمالها ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ |الإسراء: 44| فيستلزم من التسبيح أن تسير كل المخلوقات في خط الكمال، وكمالها حسب أداء التكليف الإلهي، والمسير يستلزم التبديل المادي أو المعنوي، أي كتبديل العظام إلى رميم، فيكون شيء آخر ﴿وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ |الواقعـة: 61| وكذلك السماوات والأرض عندما تصل إلى كمالها فمن المحتمل أن تكون لا سماء ولا ارض إنما ما شاء الله، ومنه يكون عدم ديمومة السماوات والأرض وحيث الكمال خطان إما تصاعد أو تنازل فإما أن تتصاعد السماوات والأرض في كمالهن وإما أن يتسافلن، فهذه الآية توصل إلى عدم بقاء الإنسان في جهنم وان كان كافراً ودخلها.
لكن الآية الأخرى في الأبدية أي يبقى مؤبداً في جهنم. فيحصل من ذلك إن دخول الإنسان في جهنم هو من اجل مصلحة الإنسان وإلا فليس من مصلحة للحق في ذلك، والمصلحة هي إن طبيعة أصحاب البُعد تكون أنفسهم ذات سيطرة تامة أي تُجرِدهم من إرادتهم وتقوي إرادتها، فلا يكون التخلص من السيطرة النفسية إلا بقهر الإرادة النفسية بأساليب القهر والمجاهدة كما يفعل المريد في بداية طريقه، فتكون جهنم هي أسلوب من أساليب التطهير الإلهي للإنسان وفك القيود النفسية عن الإرادة الذاتية فيكون: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ |السجدة: 21| فلو تاب الكافر في جهنم وآمن فليس له بقاء، إنما جهنم وجدت للعاصين أي أنها علاج للعاصين، أما أن يخلد الإنسان مع رجوعه أي بعد إيمانه فذلك بعيد.
لكن الآية الأخرى تتحدث عن قسم آخر من الناس وليس كلا الآيتين يتحدثان عن صنف واحد، أي يوجد بعض الذين يخلدون في جهنم الخلود الأبدي، وهم المعاندون كما ورد عن الإمام السجاد (ع) في ذلك (وتخلد فيها المعاندين) وهم الذين يكونون في جهنم ويصرون على كفرهم، وهم أصحاب الكمال التنازلي الذين يرون كمالهم في جهنم، لأنهم يعلمون إن الإصرار يوجب البقاء، فيصرون ويستحقون البقاء بالاستحقاق الاستعدادي والفعلي. فدخول جهنم هو بإرادة الإنسان لا قهراً.
فمن ذلك يتبين إن هذا التناقض أوصل إلى معرفة هي أعلى منه، وحط رحاله ببيان مرتبة من مراتب صفة الرحمة الإلهية التي وسعت جهنم ومن فيها. وتبقى الحقيقة من الأسرار التي يصعب بيانها.
(وله الحمد أن دعانا إليه)

