الشذرة الثانية من الصحيفة السجادية
من دعاء الإمام السجاد يوم عيد الفطر
قوله: (يَا مَنْ يَدْنُو إِلَى مَنْ دَنَا مِنْهُ).
من خلال هذه الفقرة التي أودعها الإمام زين العابدين في أحد أدعيته يبين لنا طريقةً يتعامل الحق بها مع عباده، وهي أن الله تعالى يتقرب لكل من تقّرب منه، وهذا الخُلُق التعاملي قد يكون معمول به عند البشر، فأغلب الناس يدنون ويتقربون إلى من يتقرب إليهم.
هذا التبيان الصادر من أهل بيت الرحمة يعطينا قاعدة تبادلية عامة ومؤدّاها أن كل من تقرب الى الله تعالى فإن الله تعالى سيبادله ذلك الدنو والتقرب بما يناسبه إن لم يكن بأكثر منه؛ بل كل من نوى التقرب لله فإن الله تعالى سيتقرب إليه؛ بما أن محطّ نظر الرحمن هي النوايا، قال الرسول الأعظم (ص): (نيّة المؤمن خيرٌ من عمله) وقال الإمام جعفر الصادق (ع): (… فيُعطي الله عز وجلّ على النيّة ما لا يُعطي على العمل).
ولإنزال هذا الخُلق الرفيع لأرض التطبيق وجَني ثِماره والإفادة منه على الصعيدين الدنيوي والأخروي يكون العمل به من جهتين:
الجهة الأولى: التعامل به مع الحق جلّ جلاله.
حينما ترى أو تشعُر بتقرب الله تعالى إليك عن طريق رزقٍ، أو ذِكرٍ طيبٍ على ألسِنَة غير متوقعة، أو حضور إلهي قلبي، أو ارتياح لأمر ما، فكل هذه من إشارات الاقتراب الإلهي، من زاوية أخرى إنْ عَرفتَ شيئاً عن الله تعالى، أو كشَفَ لك بعض الأبواب الموصِلة إليه، كفِهم بعض آيات القرآن أو الوقوف على بعض العِلل، أو رؤية تدبيرات الله، فهذه أيضاً مِن إشارات التقرب؛ أي إن الحق تقرب منك، وعليه فمن يعمل بهذا الخُلق الذي بيّنه لنا الإمام زين العابدين يجب عليه أن يتقرب لله تعالى بالمقابل.
ويكون ذلك التقرب للحق تعالى بأن تعمل الأعمال التي تشعُر أثناء عملها أو بعدها بفرقٍ واضح من جهة الدنو من الله عز وجلّ، وكذلك الأقوال التي في قولها تشعر بالدنو من الله تعالى كالنصيحة للخَلق والموعظة التي تكون بنيّة التقرب والدنو من الله تعالى، كذلك المناجات التي تناجي بها ربك في جوف الليل، وغيرها من الأعمال التي تخلُق تقرباً لله تعالى.
حينما يتقرب الله تعالى إليك عن طريق الدنو منك فينبغي أن تتقرب اليه عن طريق الصعود إليه، فحينما يُجاري الحق مستواك ويحقق لك ما يتطلبه الدنو مِن مرتبتك، فعليك أن تقترب إليه بالصعود الى أعلى مرتبة ممكنة وهناك تُقّدِم له ما يليق به على حسب معرفتك.
وقد لا يُشعِر الله تعالى عبده بقربه ودنوه منه وذلك رحمة وعطفاً منه سبحانه؛ كيلا يُثقِل كاهل عبده بالبحث عن كيفية التقرب إليه والتداني منه، أو لأنه سبحانهُ لا يرغب بالجزاء، فالكثير مما يُنعم الله به على عبده من النِعم الكبرى لا يبيّنها له ولا يُشعِره بتلك النِعم، وربما حَجَبَها بالأسباب؛ حتى لا يكلِّفه مشقّة شُكرِها أو الشعور بالعجز عن أداء حقها؛ لهذا قلنا في كتاب -الجواب- (ليس كل غفلة تُصيب العبد هي من العبد نفسه؛ بل بعضها من الحق تعالى…) وهذا غاية اللطف والرحمة الإلهية.
وحتى مع عدم شعور العبد بالدنو والتقرب الإلهي فعلى العبد أن يحاول التقرب لله تعالى جَرياً على هذه القاعدة، ولأن موارد التقرب الإلهي للعبد مستمرة وإنْ لم يشعُر العبد بذلك.
الجهة الثانية: التعامل به مع الخَلق.
ويتجسد تطبيق هذه القاعدة في التعامل مع العباد، ذلك بالتقرب من العِباد حين ظهور إرادة التقرب إليك من قِبلِهم عن طريق الأفعال والاقوال، فمن أراد أو حاول التقرب إليك والدنو منك بكلمةٍ طيبةٍ؛ ينبغي أن تبادله بفعلٍ يؤدي الى نفس النتيجة سواء كانت كلمة طيبة أو أعلى منها إنْ كُنتَ من أهل الاحسان، ومَن عمل لك معروفاً يبتغي من وراءه التقرب منك وجَبَ عليك أن تصنع له ما يقلل المسافة بينكما.
فاذا تحرى الفرد الدنو ممن أراد الدنو منه فقد خطى خطوة من التخلق بهذا الخُلق الإلهي الرفيع، وبالمداومة عليه سيكون خُلُقاً راسخاً يصعب عليه تجاوزه أو مخالفته، حينها سيكون ممن تخلق بأخلاق الله عز وجل واقتدى بربه بفعله ذاك، فيكون حتى الدنو ممن يدنو منه من البشر هو دنو من الله تعالى؛ وذلك لأن أعظم مراتب التقرب من الحق تعالى هو التعامل بتعامله والتأدب بأدبه.
من جهة أخرى فإن الدنو يكون على حسب مرتبة الفرد، فبما أن الحق تبارك وتعالى حينما يدنو من العبد الذي دنا إليه فإنه يدنو إليه بقدر الحق لا بقدر ذلك العبد! كذلك يكون دنو الانسان ممن ابتغى الدنو منه. فقد تكون خطوته في التقرب والدنو أكبر من خطوة ذلك الفرد البادئ بفعل الاقتراب، وهذا من سجايا أهل الجودِ والإحسان.
والحمد لله وحده
منتـــظر الخفــــاجي
النجــــــف الأشــــــــــرف
٢٠رجـــــــــــب الأصبّ ١٤٤٥