لأجل أن ينتقل طالب العمل من المرتبة الادنى الى الأعلى، ثم يُثبّت في ديوان عمال الساحة الإلهية، ينبغي أن يهيِّئ أسباب ذلك، ويرفع الموانع عن تكامله العملي، وذلك من خلال العمل بالمقدمات التالية:
المقدمة الأولى: الترقي بالنية إلى أن يصل إلى التجرد التام من المصالح. حيث تختلف نية العامل عن نية العارف أو طالب العرفان، فإن غاية أهل العرفان هو بلوغ المعارف الواقعية، وهي تتدرج في النظام الجديد ضمن موارد الطمع المعنوي بالحق سبحانه، أما بالنسبة للعامل فيجب عليه أن يجرد نيته تدريجياً من كل المطامع الظاهرية والباطنية والمادية والمعنوية، ولا يبقى في مكنون نيته إلا العمل للحق سبحانه لاستحقاقه ذلك، حينها تزول أسباب ومولدات الطمع، وتحل نية خدمة النظام الإلهي بدل نية تحقيق مصالحه.
فمن لم يرتقِ بنيته الى مستوى التجريد التام فليس أهلاً لوصول مقام العمل، وإن عمل شيئاً فهو مردود عليه.
المقدمة الثانية: معرفة الذوق الإلهي: ونعني بالذوق الإلهي هي الطريقة الكلية الأكمل التي اتخذها الحق في التدبير الأرضي، والتي تبرز من خلالها الإرادة الإلهية الجزئية.
فليس كل ما يرى فيه العامل مصلحةً للنظام يجب أن يَقدم عليه، فقد يكون ما نرى فيه مصلحة هو مفسدة في النظر الإلهي، وما نرى من حقه التقديم قد يكون في عين الله من حقه التأخير، وذلك لاختلاف النظرة الإلهية عن النظرة البشرية، فتجد العامل في أول مراتب عمله يعتمد على مخزونه من المعارف والقواعد التي عايشها ذوقاً أو كشفاً ويجعل منها الأسس لتطبيق عمله، وربما واجهته عقبات كثيرة حين التطبيق بسبب ذلك، أو يُحال بينه وبين اتمام عمله، وهذه العقبات هي تنبيهات إلهية لبيان عدم مطابقة العمل للذوق الإلهي والإرادة الإلهية الجزئية، وهنا ينبغي أن يلتفت العامل لهذه الإشارات والتنبيهات ويغيِّر على أساسها.
لذلك يحتاج العامل إلى معرفة الذوق الإلهي في طرق أداء العمل.
وهذه المعرفة تتأتى من المراتب العملية الأولى وتتصاعد إلى ما شاء الحق سبحانه.
وفي هذا المقام سقط الكثير من العمال وتوهموا باستحالة معرفة الوجه العملي للحق سبحانه، بسبب الرفض الإلهي أو عدم التوفيق فيما يقدمون من أعمال، إنما الواقع في ذلك هو الجهل في معرفة الذوق الإلهي، والسُبل التي يُفضّل الحق اتباعها حين العمل.
وفي هذا الباب لا يحتاج العامل في معرفة الذوق الحق إلا إلى التوجه القلبي للمعرفة بهذا الجانب، ومنه يفيض الحق معرفة بواطن إرادته العملية الجزئية على عبده تدريجياً، حينها يعمل العامل على أساس ما كُشف له من جزئيات الذوق الإلهي، وبها سيتكون لديه مخزون من المعارف العملية المطابقة للإرادة الإلهية، وتزول المفاهيم القديمة المخالفة لهذه المعارف الجديدة. ومن ذلك يصوغ الحق العقل العملي الجديد للعامل، ثم بعدها تبدأ مرحلة الرقي بأساليب العمل، والتعمق بالذوق الإلهي عن طريق الانتقال من المراتب الوهمية النابعة من مجاراة الحق لمستوى قابلية واستعداد العامل إلى مراتب الذوق الحقيقي، وهذا الأمر يأخذ مدة زمنية قد تكون طويلة.
المقدمة الثالثة: التخلق بالأخلاق الإلهية بأبسط مراتبها.
ان مسألة التخلق بالأخلاق الإلهية هي من الأسس العليا لطلاب الكمال عموماً، فهي من أعلى مراتب التقريب من الحق جل شأنه، وما دونها إلا البُعد الحقيقي مهما توهم طالب المعرفة ومهما بلغت معرفته.
فالاقتراب الحقيقي في مقام البقاء المؤدي إلى الوصول الحقيقي؛ يرتكز ارتكازاً جوهرياً على معرفة الاخلاق الإلهية، وبالتالي الاكتساب من هذه الاخلاق، حينها تتوحد الجنبة الخُلقية بين الحق وطلابه -وإن كان الاختلاف المرتبي قائماً -إنما بهذا التخلق ولو كان بأبسط مراتبه يبدأ العارف بالوقوف على الآثار الإلهية على الوجه اليقيني.
حينما يريد العامل أن يقدم عملاً في ساحة الحق يجب أن يكون هذا العمل مشابهاً لجنس العمل الإلهي عموماً، وان اختلفت فسوف يطرح خارج ساحة الحق.
إن الأفعال الإلهية إن خرقنا حُجب المصالح والفوائد وتجاوزنا عالم التدبير والأنظمة الإلهية، فسوف نراها صادرة من الاخلاق الإلهية أو أن مصدرها الأول هو الخُلق الإلهي، ثم في مقام التنزيل إلى العوالم الأدنى، كعالم الصفات أو الافعال أو عالم التدبير تُفصّل على أساس المصالح والفوائد، وتأخذ الصورة الباطنية لمدبِّر النظام، فيفهم منها صاحب النظام الخاص ما يناسب نظامه، وهكذا كل العوالم والمراتب نزولاً، كلاً يأخذ من ذلك العطاء ما يتناسب ومرتبته.
وعلى أساس ذلك أن يتصف الفعل أو العمل المقُدّم للحق سبحانه بجنس الخُلق الإلهي لأجل أن يَنفُذ إلى عالم اللاهوت أو العالم الخاص.
وأما إن صدر عمل العامل من مرتبة خُلق العامل فسوف يختلف عن الفعل الإلهي، فلا تكون له مأذونية التأثير في عالم الشهادة.
فينبغي على مَن وصل الى مقام العمل أن يتخلق بأخلاق الحق، والتي تكون هي المولِّد الأول للعمل، حينها يكون العمل تأسس على أسس الخُلق الطاهر، فيكون له الاذن بالنفاذ، وتكون له شمولية بالتأثير والفاعلية.
أما كيفية التخلق بأخلاق الحق تعالى، فلذلك طريقان:
الطريق الأول: هو من خلال ما يكشف له الحق من أخلاقه ويطالبه بالتخلق بها، وكذلك ما يُفتح للعامل من الاخلاق الإلهية عن طريق سيرة العمال السابقين في ساحة الله تعالى، وكيفية تعاملاتهم مع الحق، ومرتبة صدور الفعل منهم.
الطريق الثاني: وهو الطريق الأشمل والأكمل، وملخصه؛ أن يكتسب العامل الخُلقِِ الإلهي من خلال تعامل الحق معه في كبرى الأمور وصغراها، فمن خلال تعامل الحق مع عبده يكشف الحق عما يحمل التعامل من خُلقٍ إلهي.
وببيان أكثر نقول: إن الفعل الإلهي يحمل أربع مراتب من أصول العطاء.
المرتبة الأولى: وتُتصور بالفائدة أو المنفعة التي يحملها الفعل الإلهي للخَلق أو أنظمة التكوين أو الشخص المستقبل للفعل، وهنا يرى الفرد المنفعة من الفعل الإلهي– وهذه الرؤية من موارد التقرب للحق – وهي تعتمد على زاوية نظر العامل، فإن اتخذ زاوية المنافع والمصالح من الفعل الإلهي كُشف له ذلك.
المرتبة الثانية: وتظهر فيما يحمل الفعل من عجائب التدبير الإلهي، تأسياً وغايةً وما يتخذه من الصور والأسلوب، وهو ما يغري أرباب العقول.
المرتبة الثالثة: وتتجسد بالصفة التي يحملها الفعل في باطنه، والتي يرى من هو في مرتبتها أنها المولِّد للفعل وأن الفعل صادر من هذه الصفة، فيبصر من خلال الفعل صفة القدرة الإلهية أو صفة الاحاطة الإلهية أو غيرها من الصفات. وقطعاً صاحب هذا المقام محجوب كما سابقيه، وحجابه هو عالم الصفات الكائن به، والذي يفرض على أساس نظامه التوجه إلى زاوية وجود الصفة الإلهية في الفعل.
المرتبة الرابعة: وتتحقق من خلال خرق حُجب المنفعة والتدبير والصفة، وهي من حجب عالم الأخلاق الإلهية. فلا يلج حضرة الأخلاق إلا من اصطفاه الحق.
حينما يخرق العامل هذه الحجب؛ سيُكشف له الخُلق الإلهي الكائن في واقع الفعل وليس بواطنه، حينها يرى جمال الحق عن طريق فعله، ولا يرى جمال الفعل الحاجب عن رؤية جمال الحق، وحين يشهد الخُلق الإلهي في الفعل فسوف يكتسب تلقائياً من ذلك الخُلق دون مشقة التطبيق.
لذلك على العامل أن يستهدف رؤية الخلق الإلهي من الفعل، حينها سيعرف مصدر الفعل الحقيقي وليس حجبه .
إن من أعظم الحجب المانعة عن رؤية الخُلق الإلهي في أفعاله جل جلاله هو حجاب التدبير الإلهي. وحجابية التدبير هي من ضمن أنظمة اعداد العامل على الصعيد العقلي، فيرى العامل من خلاله عجائب تدبير الحق في خلقه، وأنظمته الفاعلة في ذلك الحجاب. وهذا المقام فيه من المغريات العقلية ما يصعب معها تجاوزه، فيكون هو من أكثر حجب رؤية الخُلق الإلهي في الفعل، حينها يجب على العامل أن يتجاوز اغراءات وضغوطات حجاب التدبير، ويغيِّر نظر قلبه من رؤية التدبير الإلهي وصورة اتقانه وإحاطته الى رؤية ما يحمل الفعل من خُلق عظيم.
وعلى أساس ما ذكرنا فالطريق الأكمل لاكتساب الاخلاق الإلهية هو من خلال تعامل الحق معك. ومن المؤكد هنا تكون معرفة الاخلاق الإلهية واكتسابها في المراتب الأولى منها، اذ يصعب على العامل في المستوى الأولي والمستوى المتوسط تحمُّل الأخلاق الإلهية العليا، لذلك يعمد الحق إلى إنزال المراتب البسيطة رحمة بعماله.
المقدمة الرابعة: ومن المقدمات التي تنفع في تنقل طالب العمل في مراتبه هي فَهِم التصرفات والاشارات الإلهية حين تقديم العمل.
فكما ذكرنا أن العامل في بداياته يصعب عليه أن يؤدي العمل كما يريد الحق أو بأدنى مراتب ارادته، فيقع في دائرة الاستحسان، والتقديم والتأخير، ووهم النقص والكمال، حجاب الصح والخطأ، وغيرها من ملازمات مقامه.
وأيضاً حين قبول عمله من قبل الحق سبحانه لا يعلم العامل هل قُبِلَ عمله لموافقته الإرادة الإلهية أو قُبِلَ على وجه من وجوه المجاراة الإلهية النابعة من لطفه بعباده أو غيرها من مراتب قبول الاعمال.
إن من الخُلق الإلهي حينما يُقَدَّم لله تعالى عملاً ما أو تقدمة ما بنية صادقة، فإن الحق سبحانه يتقبل ذلك ويجازي عليه، وإن كان العمل غير موافق للإرادة الإلهية، بل وإن كان مضاداً لطبيعة النظام الإلهي، وهنا قد يخرج العمل من مرتبة التقدمة، لأنه لم يخدم النظام الإلهي. لأجل هذا وجب على العامل أن يفهم التصرفات الإلهية، حينما يباشر بعمله، وحينما يُقدّم عمله بين يدي الحق.
ففي مرحلة العمل قد يتخذ العامل أسلوباً وطريقة معينة لمباشرة عمله لكن في نظر الحق سبحانه أن هذه الطريقة التي اتخذها العامل هي الطريقة الأدنى أو أن هذه الوسيلة التي توسل بها لتثبيت عمله هي وسيلة قاصرة عن تحقيق هدفه، حينها تصدر من الحق تنبيهات لذلك العامل، وتتجسد هذه التنبيهات بالعقبات التي يضعها الحق في طريق ذلك العمل، اذا كان البيان المباشر يؤثر سلباً على إرادة وهمة العامل، وقد يتمثل التدخل الإلهي بحرف العمل إلى جهة لم يقصدها العامل، فيحاول العامل أن يُرجع عمله الى الطريقة التي اعتمدها لكن دون جدوى، وكثيرة هي طرق التنبيه الإلهي، حينئذٍ ينبغي على العامل أن يتيقن بأن عمله ليس بمنأى عن التدخلات الإلهية بما أن القاعدة التي اعتمدها أساساً هي أن ما يقوم به هو لله تعالى، فلابد أن يكون للحق تدخل في ذلك العمل، وعلى ذلك سيرى العامل ان ما يواجهه من عقبات وتوقفات إنما هي تدخلات الحق سبحانه، حينئذٍ عليه أن يقف على أسباب التنبيه الإلهي، ويُشخّص مواطن الخلل في عمله.
وفي المقابل حينما يرى التسهيلات الإلهية في مراحل العمل وتسديد الحق للعامل في ذلك العمل، نفهم منها أن الطريقة المتبعة في تسيير العمل تحظى بموافقة الهية، حينها يقف العامل على أحد أساليب العمل المقرة في النظام الإلهي. لكن هذا لا يعني دوام مناسبة هذا الأسلوب لكل عمل أو في كل مراتب العمل، فبما ان المسير العملي تصاعدي فسيكون في ضمن نظامه تمحيص أساليب وطرق العمل لأجل بلوغ الطريق الاكمل، فمن الخطأ أن تجعل طريقة ما من الثوابت التي تعتمدها في كل الأعمال أو كل مراتب العمل الواحد، إنما يبقى العامل مشاهداً للتدخلات الإلهية في عمله، ويتعامل معها وفق ما لديه من مخزون معرفي اكتسبه حين مكوثه في هذا المقام مع النوازل الإلهية الجديدة قطعاً.
أما في مرحلة تقديم العمل للحق سبحانه بعد اكماله، فكما ذكرنا آنفاً من أن مراتب القبول الإلهي للعمل متفاوتة، بل هناك ما تُرَد من الأعمال لعدم قبولها، والذي هو من خصائص المتمكنين من العمال.
ومعرفة قبول الحق لعمل العامل على الوجه الحسن أو على وجه المجاراة الإلهية إضافة الى مرتبة القبول على الوجه الأول، فكل ذلك وغيره يُعرف من خلال تحقق العامل في الذوق الإلهي، أي أن معرفة ذلك غالباً ما تكون ذوقية ونادراً ما تكون معرفية، ويستفيد العامل من عمله الأول ومن تنبيهات الحق له فيما يقوم به في اللاحق من أعماله إلى أن يصل إلى المستوى المطلوب من العمل من جهة ظاهره وباطنه.
وهناك أمر آخر وهو ايقاف العمل كليةً من قِبل الحق سبحانه، فقد يعمد العامل إلى عمل ما، يبتغي تقديمه لوجه الحق، لكن في مرحلة من مراحل العمل يتوقف هذا العمل نهائياً لا ينفع معه المعالجات العقلية أو التدبيرية، ولا اللجوء أو تقديم العجز، وهذا الإيقاف غالباً ما يكون إيقافاً بسبب أن العمل أدى غايته في نظر الحق سبحانه، واستنفد فوائده، لذلك يعمد الحق الى ايقاف ذلك العمل، فأنت كعامل لا ترى استيفاء العمل إلا بعد تمام العمل، لأنك لا ترجو أن تقدم للحق تقدمة ناقصة، فتستهدف كمالية العمل، أما الحق سبحانه فينظر للعمل على أنه ظرف يُحمِّل الحق فيه عطاءه لك، فكما أنك نويت أن تقدم للحق فسوف يقدم الحق لك أكثر مما تريد تقديمه، فمتى ما رأى الحق أنك أخذت الفائدة التي رصدها لك من خلال هذا العمل؛ فسيكون العمل في نظره قد خلا من الفائدة، لذلك من باب التخفيف على عبده وعدم الخوض فيما لا فائدة منه، هنا يوقف الحق ذلك العمل، ثم يلهم عامله من الاعمال ما يناسب مرتبته الجديدة.
دمتم سماحة ابونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم