من أحبَّ عمله أبدع

سألتُ أحدَ الموظفين في بلدٍ أجنبي:
ــ كم لك في هذا العمل؟
فقال: عشرون عامًا.
قلت: أَلَمْ تفكِّر في تغيير عملك هذا؟
قال: ولماذا؟
قلت: لتحصل على عملٍ أفضل وأكثر أجراً.
أجابني: أنا أحبُّ عملي، ولا أقبل ببديلٍ عنه. وما أبقاني كلَّ هذه المدّة إلا حبِّي لهذا العمل، والأجر الذي أتقاضاه يغطي احتياجاتي.
لقد كانت لإجابته هذه وَقْعٌ في نفسي، ما بين السرور والحزن؛ ما أحزنني أن مثلَ هذا التصرّف لم أجده في بلدي ــ العراق ــ على الأقلّ حسب إدراكي ومتابعتي. ففي بلدي، الكل ــ أو الأغلب ــ لا يُحبُّ عمله، وغير مقتنعٍ بما لديه.
فحينما أسأل سائقَ التاكسي عن عمله، لا أسمع منه إلا الشكوى وعدم القناعة وانتقاد عمله، وإظهار الجوانب السيئة فيه.
وحينما أذهب إلى الموظف، أجده يُسوِّف في عمله ويتهرّب منه، كأنما أُجبر عليه أو كأنه يعمل سُخرة.
وحينما تذهب إلى التاجر، تجده يلعن عمله، ويتمنّى أن يستبدله بغيره، ويشكو من العقبات والصعوبات التي يواجهها يوميًّا، ولا يتطرّق إلى إيجابيات عمله البتة.
والفلاح يبحث عن وظيفة، لأنه غير راضٍ عن عمله في الزراعة. وهكذا في سائر حقول العمل؛ فأغلب العاملين غير مقتنعين بما تحت أيديهم، ويسعون إلى أعمالٍ مغايرة، ظنًّا منهم أنهم سيجدون في الجديد ما يُلبِّي رغباتهم، وينسبون كلَّ المشاكل التي تواجههم إلى عملهم، والواقع أن المشاكل فيهم لا في أعمالهم.
ولهذا لا تجد أيَّ إبداعٍ لدينا، ولا تطوُّر، ولا تقدُّم في الميادين العملية. فمتى يُبدع مَن يتهرّب من عمله، ويتلهّى بهاتفه أو ينشغل بأمورٍ أخرى تُسلّيه عن “مصيبته”!
علماً أن ذلك العمل الذي يَشْكُو منه، هو نفسه الذي سعى إليه، وبذل الجهد، وربما دفع الأموال للحصول عليه.
ومن منطلقٍ دينيٍّ، فإن الله تعالى حينما رزقك هذا العمل، كان يأمل منك أن تُحبَّ ما أعطاك، وأن تتعامل معه على أكمل وجه، وتبذل قُصارى جهدك لإنجاحه والرقيّ به.
وحينما تُقصِّر فيه، ولا تعطيه ما يستحقّ من الأهمية، وتُهمل متطلباته، فلا تتوقَّع من الله تعالى أن يبدّلك بعملٍ أعلى وأفضل، وأنت لم تؤدِّ حقّ العمل الذي بين يديك.
ولماذا يعطيك البديل، وأنت لا تستحقّه؟!
فلا يصل إلى الثاني إلا مَن أتمّ الأول، هكذا هو القانون.
نعم، قد يُبدلك الله تعالى بعملٍ هو أسوأ من سابقه، لأنك استحققت ذلك بما قدمت يداك في العمل الأول.
واقعًا، هذا مرض وآفة اجتماعية تؤدّي إلى توقّف عجلة التقدّم في المجتمع، وتأخّر تطوّر الفرد العامل نفسه، فضلًا عن غيره.
فعدم حبّك لعملك هو غلقٌ لباب الفائدة منه، وهو من أهم أسباب التراجع في الإنجازات العملية، وهو ما يُؤخّر تلبية احتياجات العباد.
فحينما يشعر الموظف بالملل من عمله، ويتلهّى بأمور أخرى، فلن يجد أيسر من أن يقول لصاحب الحاجة: (تعالَ غدًا أو الأسبوع القادم). وهذا ما يحدث كثيرًا في الدوائر الخدمية وغيرها.
كلُّ عمل ــ مهما كان ــ يحوي سلبياتٍ وإيجابيات، وفيه مصاعب ومشاكل، حتى لو كنتَ وزيرًا أو رئيس وزراء، فستواجه نفس الصعوبات، مع اختلاف النوع والكمّ.
وليس من سبيلٍ لتجاوز تلك الصعوبات والسيطرة عليها، إلا بحبّك لعملك كما هو، بما فيه وما عليه من تحديات.
وإلا، فمهما غيّرتَ عملك، ستواجه الإشكالات ذاتها؛ لأن المشكلة فيك، لا في العمل.
إذ إنك لم تُوطِّن نفسك على ما تعمل، ولم تستقبل عملك بالقناعة والمحبة المناسبة.
وعلى قدر ما تحقق من إنجازاتٍ في عملك، تستحقُّ العمل الأعلى منه، وهكذا دواليك.
فالتدرّج الوظيفي، أو التطوّر المهني، لا يتحقّق بكره العمل الأول أو التهرب منه؛ فهذه الطريقة لا توصلك إلا إلى كره العمل الثاني أو الجديد.
إن القبول الحقيقي بما بين يديك، هو ما يدفعك إلى الابتكار، وسدّ النواقص في ذلك العمل.
ومحبة العمل ــ أيًّا كان ــ هي التي تُنزِل الأفكار التطويرية بشأنه، وتوصله إلى أرقى المراتب.
فعلى من يروم الراحة في عمله، أن يُحبَّه كما هو.
ومن أراد أن يُخلّد ذكره في ميدان عمله، فعليه أن يقبله، مهما جاهدته نفسه على رفضه.
والعاقل هو مَن يقبل بما قبله الله له، ولا يطلب التبديل إلى ما يجهله؛ فربما كان اللاحق أشد وطأة، وأقل خيرًا، وأكثر صعوبة.
لا يوجد عملٌ خالٍ من الخير، أو مجرَّد من الإيجابيات.
ولكننا نُضخّم ما نراه سلبيات، ونُغفل عن عطاء ذلك العمل.
ولا نُبصر قيمته إلا حينما يُعطَّل، أو نُقال منه؛ حينها نتوسّل للعودة إليه، ونلجأ إلى الوسطاء لأجل الرجوع إليه!
هذه الآفة ــ كما ذكرنا ــ من الأسباب الكبرى التي جعلت مجتمعنا وبلدنا يراوحان مكانهما، في حين سبقتنا البلدان الأخرى، التي كانت متأخرة عنا، وتجاوزتنا بأميال.
ثم جلسنا نندب حظّنا، ونشكو: لماذا لا نكون مثل البلاد الفلانية؟! ولماذا الدولة الفلانية أكثر تطوّرًا منا، وهي لا تملك ما نملك من ثرواتٍ وإمكانات؟!
والجواب: إنهم جَدّوا واجتهدوا في أعمالهم، ونحن انشغلنا بالحسد، والتسقيط، والأماني الفارغة، وعدم الرضا بما في أيدينا، وتطلّعنا إلى ما لا يمكننا إدراكه؛ فأضعنا ما تحت أيدينا، وعجزنا عن الوصول إلى ما فوقنا.
أعاننا الله تعالى على ما ابتلينا به أنفسنا.
منتظر الخفاجي
النجف الأشرف
5 / 5 / 2025م
شارك هذا الموضوع:
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة) فيس بوك
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة) Telegram
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة) WhatsApp
- النقر للمشاركة على X (فتح في نافذة جديدة) X
- اضغط للمشاركة على Pinterest (فتح في نافذة جديدة) Pinterest
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة) طباعة