الباب الثالث عشر
ومضـات من أصـل التكوين
إن دائرة الكمال هي دائرة متكاملة ، حيث أن الأصل منه إليه ، والزيادة في الكمال ليس نقص في الكمال إنما أصل الكمال هو المنبع والمصب ، فمن قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن : ٢٩] لزم انعكاس صورة الحال في الخلق سواء كان المادي أم المعنوي أو كلاهما بما أن الماديات تلازم المعنويات عند الظواهر ، فمن هناك لزم عدم توقف الخلق حيث شأنية الحق في خلقه ، فيكون مستفاداً من الشأنية الإلهية فيض الخلق . وظهور القدرة في الخلق هو كمال للخلق ، فكان أصل التكوين هو الكمال وإلا فإن فائدة النجم للاهتداء إذا حُملت على ظاهرها وقيست الفائدة بالفعل وهو النجم فليست هناك فائدة بل المقدمة اكبر من النتيجة وهذا ما لا يصح في أنظمة الحق بل هناك من النجوم ما يفتقر إلى تلك الفائدة.
أما الوجود الحقيقي فهو الوجود التكاملي سواء أكانت المخلوقات تتكامل عبر الترابط النظامي في الأصل الواحد أم تتكامل بتكاملها الخاص ، كذلك فإن تكاملها يفتقر إلى الأطراف الأخرى . أما لو كانت استقلالية لسقط التوحيد في خط الكمال واعني به خط الكمال الأول إنما الترابط هو المكّون لتلك الدائرة المتكاملة لكن الاختلاف في الخطوط الثانية أي عند المسير في طريق الكمال المناسب لطبيعة الشيء المتكون بالأصل.
هذه في المستويات الأولى أما في الطبيعة المتكونة من المسير في المستويات المتقدمة ، فمنها اختلاف تكامل الإنسان بما أن الأصل واحد وهي الإنسانية ولكن تطرء بعض الأحوال التي تعتبر من الصفات والطبائع الإنسانية المكتسبة من قابلية الإنسان الاكتسابية وكذلك في كل المخلوقات.
وطبيعة هذا التكامل يبدء من أول الخلق أي من الأصول الخَلقية الأولى المادية والمعنوية إلى أن يصل كل مخلوق إلى كماله إن كان كماله متوقفاً وإلا استمر في المسير اللامتناهي . ومن تلك الأصول التراب ، فانه من أصول التكوين المادي حيث انه يدخل في التركيب الظاهري لأكثر الخلق. والأصل في التراب هو ما نراه إجمالاً وان كان قد طرأت عليه بعض الأحوال التي غيرت أو كاملت صفاته الأولى ولكن يبقى هو الأصل. فاخذ التراب بالتكامل والتفرع من خلال مسيره في خط الكمال المرسوم له ، وهذا التفرع من ضمن النظام التكاملي ، فكانت منه الرمال والأحجار وأنواع الأتربة الأخرى.
ثم كانت المرحلة التكاملية الثانية وهي وصوله إلى أرقى من ذلك المستوى فكانت منه المعادن. مع مسير الفروع الأخرى في خط الكمال ، فأخذت الأحجار بالتكامل حتى وصلت إلى أنواع كثيرة ، وهذه الأنواع أخذت بالرقي فكانت منها مثلاً الأحجار الكريمة وما دون ذلك ، أي إن بعضها أصبح حجراً كريماً وغيرها أصبح فحماً حجرياً فمنها مَن توقف كماله ( وأعني بالتوقف هنا الانحراف ) ومنها من استمر في كماله كالتراب الذي خلقت منه الأجساد ، ومنها الأجساد البشرية وهي غاية ما وصل إليه الكمال الترابي ، وأكمله ما خلقت منه أجساد المعصومين ، واخذ الجسد الإنساني على سبيل المثال بالرقي وهذا ملحوظ لمن أمعن الفكر فيه.
واكتسب كل مخلوق بعض المعنويات من الأصل فكان على قدر استحقاقه لذلك . والاستحقاق هنا هو على قدر عبادة المخلوق التي كلف بها سواء كان تسبيح أو ذكر أو فعل أو طاعة أو غيرها ، وهو ظاهر في قوله : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [الجمعة : ١] أما كيفية التسبيح فكل مخلوق على قدر ما أودع الحق فيه من عطاءه الرباعيّ الأصل.
فالتكامل يكون بأداء التكليف وكلما تكامل الشيء تغير تكليفه ، فكل الحالات المسماة بالفيزيائية والكيميائية كالاحتراق والتفاعل والاتحاد وغيرها هي أحوال أو مراحل تكاملية إذ أن الأشياء إذا وصلت إلى تساوٍ في الكمال سهل عليها الاتصال ومنه الاكتساب الكمالي من الغير.
نعم محتمل أن يكون الاختلاف ظاهراً إنما القياس على البواطن لا الظواهر . والتكامل هذا يكون على عدة طرق سواء بالاتصال بالخارج أو الاتصال بالداخل ، فكما أن الأشياء الخارجية تحوي كمالات جزئية لغيرها فكذلك في الشيء الواحد نفسه بعض الجوانب الكمالية ولكن في مستوى متقدم نسبياً بما أن صورة صفات الحق تنعكس في خلقه ، والواقع إن أصول الخلق تحوي على بعض الصفات المنزلة من الصفات الإلهية ومن هذا كان بقاء الصفات الباطنية في الأشياء وعدم زوالها بالتغير أو التحوّل حيث إنها الأصول. وبما أن المعنويات هي السائدة في الخط اللامتناهي فقد اكتسبت من صفات الحق بالتنزيل وبالتنزيل الثاني اكتسبتها الماديـات ، فلو أخذنا الماء مثلاً وهو من أكبر أصول الخلق ، فإنه الواهب لصفة الحياة والتي فاضت من صفة الحياة اللانهائية حيث يقول تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء : ٣٠] فاكتسبت الأشياء صفة الحياة من الماء والذي اكتسبها من الجاعل ، فكان جزءا من تركيب الحي كصفة معنوية وأثر مادي . واصل الوجود هي الحياة لا القدرة ولا العلم كما يقول سبحانه وتعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ } [النور : ٤٥] أي أن الماء داخل في تركيب كل متحرك سواء كانت حركته داخلية أو خارجية والتي يتكامل من خلالها بالتحرك والتنقل من حال إلى حال . والمعدوم واقعاً هو المفتقر للحياة . فوجب أن يدخل الماء في تركيب كل حي وأقصد المادي منه ، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
هذا ، وإن اكتساب الحياة من الماء بصورة معنوية حيث أن ظاهر الماء لا يعطي الحياة إنما المعطي أصل الماء ، وبما إن الحياة هي شيء معنوي وجب أن تكون حقيقة الماء هي المنبع للحياة وهذا ظاهر لأصحاب الباطن.
ومن ذلك كان الماء هو موطن عرش التكوين ، فعندما يخبرنا بقوله: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود : ٧] وكان هنا تفيد الاستمرارية ، وبما إن أصل الوجود هي الحياة ومنبع الحياة المكتسبة هو الماء فيكون وكان عرشه على أصل الوجود لما دونه ، وهنا ليس المقصود من العرش هو العلم كما بينا.
والحياة عبارة عن استعدادات عامة للعطاء والأخذ والاكتساب فمن هذه الاستعدادات كان لسان الاحتياج الأول الداعي لنزول القدرة والعلم.
فمن ذلك ( بما إننا سقنا الميزان بعصا البرهان) يكون الخلق يحوي في باطنه على الصفات الثلاثة وهي فيض من صفات الحق تعالى . أي أن كل الخلق حوى على هذه الصفات ، وكلٌ على قدر إناءه ، ثم يكاملها . فإذا فهمنا ذلك سهل علينا فهم كثير من المبهمات مثل بعض الآيات القرآنية التي توصف الجمادات بصفة العلم والإرادة والحياة ، مثل قوله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام : ٣٨] ، وقوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : ١١] وقوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } [الأحزاب : ٧٢] فإذا حملت هذه الآيات وأمثالها على ظاهرها فهي عين الصحة ، نعم لا بأس بالتأويل ، ولكن هذه حقيقة الآية وهذا هو المقصود منها ، وخطاب الحق هذا لمخلوقاته على قدر ما وصلت إليه هذه المخلوقات من القدرة والعلم وغيرها من الصفات وهي في تكامل مستمر من جهة هذه الصفات . فيكون حمل هذه الآيات على ظاهرها وجه وجيه.
نعم إن قُيّد الحق وقُيّدت قدرته خُرّجت الآية بمخارج أخرى وأعزاها المفسرون إلى التأويل وهي لا تمت للتأويل بأي صلة ، فيجعل النقص في الآية لا في عقله ! نعم كل الآيات القرآنية لها ظهر ولها بطن ، وأن للقران سبعين وجهاً صحيحاً ، لكن لا بمعنى انه يقبل السيئ والحسن إنما سبعين وجهاً كل وجه أعظم من الآخر ، ولكن ذلك لا يتيسر إلا للرجال.
وكل ذلك يوصل إلى أنه { هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد : ٤] حيث افتقار أي مخلوق لهذه الصفات الثلاثة يكون خالياً من الحق وهو باطل ، وليس معنى وجود الحق في خلقه شيء آخر ( على هذه المرتبة ).
وليس فقط المخلوق الكلي حوى هذه الصفات بل حتى أجزاءه الاستقلالية . وتقريب ذلك ، إن علماء الطب مثلا قاموا بعمليات زرع أعضاء الجسم الإنساني أي ينقلون أعضاء الجسم من إنسان لآخر سواء كان المأخوذ منه حي أو ميت والأغلبية تكون من الأموات وهي عمليات كثيرة منها عمليات زرع القلب والكلى والجلد وغيرها من الأعضاء ، فإذا أخذناها على وجه الظاهر فيجب أن تفشل كل هذه العمليات حيث أن هذه الأعضاء ميتة إما بالأصل أو عند قطعها لان في الظاهر الموت خروج الروح من الجسد فإذا أخرجت الروح مات الجسد ولكننا نرى العكس ، وواقع ذلك إن كل شيء يحوي على الحياة بالاستقلالية وله تكليفه وعبادته الخاصة . لذلك نرى إن العضو إذا رجع إلى نظامه الأول عمل نفس عمله الأول وليس للدم أو الدماغ علاقة في حياة العضو إنما الدم يعطي بعض الكمالات لذلك العضو وكذا الدماغ إن كان ذلك العضو داخل نظام الدماغ . فأن خرج عن نظامه أو خطه المرسوم له تحّول إلى شيء آخر ( فليكن جيفة أو تراب ) وهذا هو طريق الكمال العام.
فليس ثمة شيء يخلو من الحق سواء كان كلاً أو جزاءً . وما الموت والحياة بالمفهوم العام إلا مصطلحات ظاهرية ، أي عند البشر من ينتقل من حالة إلى أخرى يسمى ميت أو بالأخص إن حالة الحركة الظاهرية للأجساد إذا توقفت سمي الجسد ميت.
إذن النتيجة من ذلك ، إن أصول التكوين الخلقي هو انعكاس الصفات الإلهية فيه ، فيكون سر التكوين هو من حيث هو.
( ولا بقاء إلا لوجهه )