آية وعطاء

آية وعطاء 1

     قال جلّ وعلا : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : ٦٥].
     الآية الكريمة جاءت على سبيل المثال لا الحصر، لتبين حالة من حالات نكران الانسان للنعم الالهية والغفلة عن أفضال الله تعالى وألطافه، والظلم في نسبة الفعل لغير أهله، ومدى جهل الانسان بآداب التعامل الالهي. والخطاب في الآية موجه للمؤمنين بالله تعالى بدليل قوله ( دعوا الله مخلصين… ) اي انهم مؤمنون بوجود الله تعالى وبقدرته على انقاذهم مما ورطوا به أنفسهم.
وبما أن الآية تعم أغلب مستويات المؤمنين فقد حوت في ظواهرها وبواطنها ما يناسب كل أصحاب تلك المستويات. وبفيضٍ من الحق تعالى يمكن أن نبين بعض تلك المستويات بإيجاز ونحجم عن الأخرى التي يكون في كشفها هتكاً للأستار.
وبعد التوكل عليه نقول:

المستوى الاول
الوجه الاول: اذا ركبوا في سفنهم وأصابها عارض من البحر دعوا الله وتوسلوا به لأجل نجاتهم، فلما استجاب دعوتهم وأنجاهم من الغرق، أشركوا بالله من جهة نسبة سبب النجاة، فأوعزوا سبب النجاة الى قوة السفينة أو مهارة الربّان أو غيرها من أسباب الشرك ونسوا أن الذي أنجاهم هو الذي توسلوا به ودعوه حين أوشكوا على الغرق.

الوجه الثاني: فاذا ركبوا في فلك الأمراض وعلة الأجساد دعوا الله بلسان التوسل والالتجاء، طالبين العافية والشفاء، بقلوب مخلصة وألسنة صادقة، لئن شافيتنا وأزلت أدوائنا؛ لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم من علة شرور أفعالهم وعالجهم بواسطة الحكماء من عباده، توجهوا للوسائط من الطبيب والدواء ونسبوا لهم الأفعال وشكروهم بأحسن المقال وأتم الحال، وغفلوا عمن دعوه والتجأوا اليه، وقائل قائلهم: ان الطبيب الفلان أفضل طبيب ولولاه لكنت من الهالكين! عجب منك يا ناكر الجميل! لقد دعوة الله حين مرضك ولم تدعو الدواء ولا الطبيب!.

المستوى الثاني: اذا ركبوا فُلك الرغبات النفسية والمتع الجسمانية ووقعوا في عواقبها والاعتياد عليها ونالوا وبالها؛ دعوا الله ان يخلصهم من هيمنتها وينجيهم من أثرها وينقذهم من نتائجها، فلما أنجاهم وأخرجهم من سلطان الرغبات وسطوات الشهوات، أشركوا حولهم وقوتهم وأوعزوا ذلك الى مجاهداتهم ومخالفاتهم وأسباب رياضاتهم، وغفلوا عن المدد الرباني والعطاء الرحماني.

المستوى الثالث: اذا كانوا في فُلك الشريعة تتلاطمهم أمواج الظنون ورياح الأوهام وعواصف الشكوك، رفعوا أكف الاحتياج وأظهروا قوة الاستعداد ودعوا الله بدعاء الخُلّص من العباد، لئن أنجيتنا من هذا المقام وأوصلتنا الى بر القلب وأرض الاطمئنان؛ لنكونن من الشاكرين الناسبين الافعال لأهلها والمبصرين لصدور النعم عن أربابها، فلما أجاب طِلبتهم ونفّذ رغبتهم ورفع مقامهم ووهبهم نعمته الخاصة وأحلهم حضرة القلب، نسبوا ذلك في فكرهم الى صحة عقيدتهم وصواب مذهبهم وكثرة تهجدهم وقوة ايمانهم واعتبروا أن ما بلغوه هو باستحقاقهم، واحتجبوا عن رؤية الأيادي الالهية وعَمُوا عن إدراك التدبيرات الجلية، فكانت عاقبتهم النزول من مقام القلب أو التوقف فيه، كل على حسب جزاءه، فاستنكروا من حضرة القلب ما يطمع به الطامعون وتمده اليه أعناق الطامحون؛ فأصبح سيرهم نزولاً وغناهم فقراً وأُحيطَ بما كسبوا، فتردوا في بئر التدني. وكذلك عاقبة من يستحب العمى على الإبصار.

المستوى الرابع: لما ركبوا في فلك التوحيد، ولم يروا غير الله جل اسمه فعل ونعتاً وذاتاً، توجهوا اليه بشوق الارواح وعشق الأسرار، طلباً للسير فيه معه، فلما أفناهم عن فنائهم وأبقاهم ببقائه وأنزلهم محل الخلافة وألبسهم تاج المهابة وكلفهم بأمره، مالوا الى جهاتهم السفلى وفكوا العهود والمواثيق وأصبحت دعوتهم لأنفسهم وأبصروا أوهامهم حقائق، فقال قائلهم أنا أنا ، وتوهم الاخر أن ليسه بينه وبين الحق حجاب ولا مرتبة ولا باب، فنسي الرجوع الى مولاه في شؤونه وغفل عن مقامه حيث البقاء رب وعبد ما يوجب الرجوع للرب في كل أموره، فزل عن ذلك وعمل بما يملي عليه عقله، فضاع جهده وخسأ فأله.

المستوى الخامس : اذا ركبوا بحور التوحيد وأمطرتهم جواهر التفريد، وحركت مطامعهم أصابع التمجيد، وأثارت مخاوفهم زواجر التبعيد والإبقاء في مراتب العبيد، دعوا ربهم بلسان الحال والاحتياج ووعده بلسان الاستعداد، لإن أوقفتنا على بساط التدبير وأقمتنا في حضرة أسرار التسيير لنكونن لك من العاملين. فلما رفعهم الى مقام التأثير أشركوا مطلبهم بمطلوبهم ومطلبه بمطلوبه فحُجبوا بالعمل عن صاحبه ، فتاهوا في سلطانه وعلقوا في مراتب إحسانه، فلا تشهد أرواحهم الا مراتب تدبيره، ولا تقف الا على عجائب تسخيره. ولو أنهم غرقوا في ذلك البحر لكان خير لهم.

والحمد لله رب العالمين

منتظر الخفاجي

١٠ \ ١٢ \ ٢٠٢٠

This Post Has One Comment

اترك تعليقاً