الأدب مع الحق تعالى 

القسم الثاني 

أدب التقدمة

الأدب مع الحق تعالى ( القسم الثاني ) 1

       يذكر لنا الكتاب العزيز قصة وَلَديّ آدم عليه السلام، حينما قدما قربانيهما للحق جل شأنه، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.

         علماً الله جل جلاله لم يأخذ بالأخذ الواقعي ما قدمه الاثنين ولم يستفيد منه شيئاً تقدس غناه. اذن لماذا لم يتقبل من قابيل قربانه؟ وعنده لا فرق بين الخروف الكبير الذي قدمه هابيل وبين التميرات الرديئات التي قدمها أخوه من جهة القيمة المادية؟.

     المسألة ليست مادية وانما هي حقيقية – أعني معنوية -، وفيها ان هابيل قدّم ما قدّم مع مراعاة حسن الادب لمن قدم اليه، والذي نبع من رؤيته للاستحقاق الإلهي من التقدمة، طبعاً على مستوى ادراكه لاستحقاق الله تعالى. لكن الحق سبحانه نظر للحال الذي قدم فيه هابيل قربانه، قدمه وهو فرح منشرح لأنه سيقدم قرباناً لعظيم السماوات والارض، سيقدم لمن يُحب، سيقدم للغني المطلق عن كل قربان وتقدمة؛ لذلك رأى الرجل ان من حسن الادب ان يقدم للحق أفضل ما يستطيع وبالصورة الاكمل والاطهر، اما الاخر فلم تكن تقدمته الا سوء أدب في حضرة الحق لمِا حملت معها من شوائب النوايا وقذارة التكلف.

      الرسالة التي أراد الله سبحانه ان يوصلها لنا من خلال هذه القصة هي إيضاح المعيار الحقيقي للتقدمة الصحيحة وصورة الادب الذي يلازمها. ولا أعني بالأدب هنا هي مرتبة الطقوس الجسمانية انما هي الأحوال النفسية والقلبية التي ينبغي ان تكون التقدمة او القربان متلبس بها، بل هي القيمة الحقيقية للتقدمة وجوهرها. 

      فمن ابتغى ان يقدم للحق تقدمة فيجب ان يضمن مقبوليتها من خلال توفر شروطها الجوهرية والتي أهمها:

      اولاً: ان تكون زاوية النظر منها هي استحقاق الله تعالى لهذه التقدمة، وليس اتخاذها سبباً لاستحصال توافه الدنيا، والتي قد يأخذ منه لكنها ستحط من مرتبة تقدمته.

     ثانياً: ان يستشعر الفرد –وليس يُدرك- ان الفضل الحقيقي بهذا العمل هو لله عز وجل، فهو الدافع والمحرك نحو اعمال الخير اطلاقاً.

       ثالثاً: ان يستيقن الفرد ان الحق عندما يتقبل تقدمته فهو تنزلاً وتسامحاً منه سبحانه لقبول ما يناسب مستوانا الضحل في مقام عظمته، والا ففي واقع الامر ليس من عملٍ له الاهلية ليُرفع الى الكمال المطلق جل جلاله وهو صادر من النقص المطلق.

       بودي ان اذكر هذه القصة فقد تكون فيها منفعة، يذكر في انجيل بوذا بما معناه، أن أحد الملوك في ذلك العصر أراد ان يقدم هدية لبوذا ففكر أن أفضل ما يمكن ان يقدمه هو ان يبني له معبدا او مقرا يكون ملاذا له ولتلامذته حيث لم يكن لبوذا مقراً حينذاك، ثم تأمل الرجل في ان يكون هذا المقر بأفضل المواصفات من جهة الموقع بحيث لا يكون بعيدا عن الناس ولا قريبا من ضوضائهم وتكون اجوائه كذا الى اخر المواصفات، فوقع اختياره على حديقته الخاصة التي كانت محل راحته وانسه! ثم فاتح بوذا بالأمر فقال: (هل يتنزل سيدنا بوذا ويتقبل هديتي!) الرجل وهو ملك لم يطلب من بوذا القبول بالهدية وانما طلب منه أولاً ان يتنزل من مقامه الى مقام المتكلم ثم بعد التنزُل طلب منه قبول هديته، لأنه -وحسب فهم الرجل- ان من غير المنطق ان يتقبل من هو بمرتبة بوذا تقدمة من هو بمرتبته! الا بأن يتنزل الى مراتب اعتبارية لكي يتقبل هذه الهدية، والا فالمفروض هو عدم تقبل بوذا لهذه الهدية لأنها محملة بنقائص وادران منبعها. هذا حسن أدب والتفات واضح نفتقر له نحن حين التعامل مع من ملأت عظمته كل شيء، مع من وسع سلطانه كل شيء.  

   -وله الحمد-

منتظر الخفاجي

 

اترك تعليقاً