الباب التاسع عشر

الإرادة الإنسانية وعلاقتها بالإرادة الإلهية

الإرادة الإنسانية وعلاقتها بالإرادة الإلهية 1

إن الأفعال الصادرة من الإنسان والواردة إليه سواء أكانت بالفعل المتحقق بالخارج أم الداخل أم بالجذب الاستعدادي أم الحالي، كلها تعود للإرادة الإنسانية بكل أشكالها. والأفعال الطارئة على الإنسان في الباطن هي أيضاً لا تخرج عن إرادته. لأن كل استعداد أو فعل استعدادي يؤدي إلى نزول أو جذب بعض الأفعال الواردة من الحق أو ممن هو دونه، فهي حسب استحقاق الفرد، فبعض أفعال الخلق التي يتعرض لها الإنسان هي من كماله بالتأثير.

 وهذه الإرادة التي وهبها الحق للخلق كفيلة بتحقيق كل ما هو ممكن في دائرة الوجود ولا يخرج الخيال من ذلك، والتي تكون منه إليه بكل المستويات الظاهرية والباطنية. فكل موجود سواء أكان وجوده خارج الإنسان أم داخله، نفسياً أم قلبياً أم عقلياً أم وهمياً أم خياليا، هو خاضع للسيطرة الإنسانية، وذلك بالسمو في عالم الكمال حيث ((عبدي اطعني تكن مثلي)) فكل الصفات هي ظلال لصفات الحق الناتجة من الصفات الثلاث.

فالإرادة هي جزء استقلالي نابع من الإرادة الكلية، إذ المخلوق صورة تعكس  صفات الحق، كما جاء عن الإمام الحسين (ع): (تجليتَ لي في كل شيء حتى رأيتكَ ظاهراً في كل شيء).

وهذه الاستقلالية إما أن تكون استقلالية كلية أي ليست لها صلة من قريب أو بعيد بالإرادة الإلهية بعد الخروج منها، أو تكون استقلالية جزئية ولها تأثر بالإرادة الكلية وأعني بالتأثر: الصلة بها في جوانب أخرى مع وجود الحرية. فأما الاستقلال الكلي فهذا بعيد حتى في عالم الاستقلال، لأن خلو الخلق أو الإنسانية بصورة خاصة من الإرادة الكلية يعتبر خروج عن السيطرة بنوعيها.

 أما الاستقلال الجزئي أي تكون للإرادة الكلية علاقة فعلية بالإرادة الإنسانية سواء كانت بالهيمنة أو الإحاطة أو التداخل في بعض الأفعال، فهذا أقرب من الأول. وهذا في الظاهر.

 أما في الباطن فان الإرادة الإنسانية تمرُ بعدة مراحل تُكوّن أحوالاً بين الإرادتين ولا تُعرف إلا عند الوصول إليها، وبصورة مُقرِبة إن الإرادة كامنة في الروح وليست في أي جانب من جوانب الإنسان، إنما لكل جانب قدرة معينة قابلة للنمو مكتسِبة الإرادة الروحية، لكن أحياناً يرى الإنسان إرادة نفسية تعمل على تحقيق الرغبات النفسية والكمالات الجسمانية، ويرى أحياناً أنها ليست بإرادته، في الواقع هي ليست إرادة بالمعنى الخاص إنما هي إرادة روحية استعدادية لطاعة النفس وتحقيق رغباتها، وذلك لوجود القوى النفسية وسيطرتها على ذلك الإنسان، والتي تنجم من استمرار إِطاعة النفس. وكذلك العقل فهو يكتسب إرادته من الروح. فلدى أي جانب من جوانب الإنسان قدرة على الاكتساب من الروح، ومن الصعب ملاحظة هذه الإرادة الاستعدادية لوجود الحجب النفسية والحجب المرتبية التي تحجب عن الفعل في الإرادة حيث تكون خفيّة.

إنما كل طلب عقلي أو قلبي أو نفسي هو بإرادة الإنسان. وإلا لو كانت للنفس إرادة خاصة بها لأصبح من المحال السيطرة عليها، ولو كانت كذلك لأصبحت كل الإنسانية بصراع مستمر مما يؤدي إلى توقف الكمال والبقاء في مرتبة واحدة، أما طلبٌ نفسي خارج عن الإرادة الإنسانية فهذا محال حيث يُسقط الحساب الإلهي في أي مستوًى كان.

 والإرادة صادرة من عالم اللاهوت، فكانت تكوينية وليست وضعية ففي عالم اللاهوت ليس من وضع البتة، فأصبحت الإرادة ملازمة لتكوين الروح وهي جوهرها. أما لو قلنا بفقد الإرادة حيناً ما فهذا سيؤدي إلى توقف عمل الروح. نعم قد يكون خلو الإنسان من الإرادة في مقام ما، لكنّ واقعه ليس الخلو من الإرادة وإنما هو تبدل الإرادة من قبيل مقام التسليم والذي يكون فيه محو الإرادة الجزئية بالإرادة الكلية، فيتكون كل فعل بالإرادة الإلهية، وكذلك يدخل في الجانب الآخر وهو جانب التفويض بعد الوصول عندما يكشف للعارف حقائق الخلق وأسراره ويكون متمكنا في الخلق، فعندها يفوض الإنسان بعملٍ على قدر اِستحقاقه. فهذه المقامات هي بإرادته طبعاً لأن دخول كل مقام بالإرادة الاستعدادية التي عليها المعّول في الباطن، ففي هذه المقامات يكون الجبر والتفويض على حسب حال ومقام المريد، فهي في تبدل. أما دون ذلك فليس من جبر إلا في النظام الإلهي أي في وضع النظام أو الخط الخاص بالنظام.

 أما المسير أو عدمه فهو كذلك بالإرادة الإنسانية، حيث النظم الإلهية على عدد الاحتمالات المتوقَع دخولها في كل الجوانب الإنسانية. والجبر هو الأساس في خط الكمال وأعني به الجبر الوجودي، لأن الوجود عبارة عن كمال بعد الأسس.

وبإرادة الإنسان أكبر من ذلك! وهو مقام التوكل أي عمل الإرادة الكلية بإرادة الإرادة الجزئية، فإن في ذلك المقام يكون طلب التحقيق من الإرادة الجزئية والتحقيق للإرادة الكلية، فتكون حينئذٍ طاعة من الإرادة الكلية للإرادة الجزئية. فيكون في الباطن التنقل بين المقامات والذي هو تنقل بين خصوصياتها.

واستخدام الإرادة الإنسانية بتمامها يعتمد على التجرد في كل المستويات الكائنة دون عالم الروح، لأن كل ما دون عالم الروح له تأثير على الإرادة الإنسانية حتى يرجع الإنسان إلى الإرادة الكلية والفناء بها عن طريق صلة الامتداد. نعم قد يكشف للإنسان من الإرادة على قدر العمل.

وللإرادة علاقة بالقدرة على قسميها، أعني القدرة الإنسانية العامة والقدرة الإلهية، فعند تقدم الإنسان في الكمال يتجاوز القدرة العامة وهي قدرة تجاوز عالم الاستقلال، عندها يأخذ من القدرة الإلهية الخاصة.

ومعرفة الإرادة متلازمة مع القدرة، والسبب: لا يطرأ على الإنسان شيء إلا وكانت له القدرة عليه أو الوصول إليه، والشيء الذي فوق طاقة الإنسان ليس له مكان في نظام الإنسان وليس له أي باب للدخول للإنسان: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ |الطلاق: 7|.

وكذلك تتعلق الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية من عدة وجوه نذكر منها:

الوجه الأول: إن الاكتساب الإنساني يكون من داخل الوجود وليس من خارجه، فكانت الإرادة الإنسانية مكتسبة من الإرادة الإلهية، لكنَ التنزيل والهيئة الإنسانية تحطّ من مستوى هذه الإرادة حتى تكون ذات اختلاف عن الأصل وذلك لاختلاف الحق عن الخلق.

الوجه الثاني: بما أن الرجوع إليه بأي صورة كانت، أما لأفعاله أو لصفاته أو لذاته -وذلك الرجوع بغريزة الشوق للكمال التي هي نوع من أنواع الإرادة- فكانت العلاقة بين الحق والخلق علاقة الرجوع للحق بالكمال المرسوم له على حسب إرادة الخلق، وإلا فإن الرجوع لابد منه حيث ليس غير الوجود إلا العدم.

الوجه الثالث: إن الاستقلالية الأولى -أي في المراحل الأولى- هي استقلالية وهمية بالمعنى الباطني، ففي المسير يكون ضمن التكامل تكامل الإرادة حتى يصل إلى الاستقلال الحقيقي وهي درجة العبودية الحقة، ففيه تكون العلاقة علاقة الإرادة الأصلية.

أما بالنسبة للإرادة الاستعدادية ففي مستوى النفس إن الإنسان تكون له قابلية ناتجة عن الاحتياج النفسي لنزول الطلب النفسي، بمعنى يكون احتياج نفسي يرغم الإنسان على إرادة الفعل المعين حتى لو أن الطلب الظاهري ناقض الطلب الاستعدادي فيكون المقياس هو الطلب الاستعدادي، والباطن هو العالم الحق وهو المنظور وليس ظاهر الإنسان، فكل إرادة استعدادية متحققة إطلاقاً، ولكن الصعوبة في صفاء الإرادة الاستعدادية وكذلك بالنسبة للقلب والعقل.

أما معرفة الإرادة معرفة حقيقية فهذا مرتبط بمعرفة الإرادة الإلهية ولا يكشف الحق ذلك إلا لمن بلغه، فبعض الجوانب الإنسانية لها صلة بالصفات مباشرة. فعند معرفة الإرادة يكشف للإنسان سر القضاء والقدر واللوح وغيرها من الأسرار التي لا تبلغها العقول، فهي مستويات روحية ولو كُشف للعقل لما تحملها وأسرع شيء للعقل عند عدم التحمل هو الإنكار، وهذه من الأسباب التي توجب السرية في المعارف الإلهية.

 

(وله الحمد على الأولى والآخرة)

شكرا لترك بصمة تواجدكم معنا .........