رآه جالساً وحيداً على ساحل البحر يرتشف الدخان من سجارة بيده، بجانبه ابريق من الشاي وخلفه عصاه التي يتوكأ عليها وربما له فيها مآرب أخرى، كأنه ينظر الى نقطة بعيدة من ذلك البحر، اقترب منه والتردد يملأ صدره، هل أكلمه أم أنه مستغرقٌ في أمرٍ ما؟ قد ينزعج مني؟ وربما يرحب بي….؟ حسم الشاب أمره وألقى السلام على ذلك العجوز، لكن لم يتلقى رداً! ربما لم يسمعني، وربما لم يبالي بوجودي، بعد سجال مع نفسه كرر التحية، لم يسمع الا كلمة واحد …. اجلس!.
هل قال لي اجلس أم كلمة أخرى؟ هل أجلس، وإن استنكر جلوسي قربه ماذا سأقول له؟ الشاب يحاور نفسه. سوف اجلس وإن سألني سأقول له أنت دعوتني فأجبتك. لم يلتفت العجوز الى ذلك الشاب الجالس بقربه. أراد أن يتحدث مع العجوز لكن تزاحم الخواطر المتضاربة أخرسه عن النطق. لماذا لم تأتي قبل الآن؟! هذا ما نطق به الرجل العجوز. طفحت ملامح الاستغراب على مُحيّا الشاب بعد أن ملأت قلبه. هل سألني؟ وما هذا السؤال !. عفواً أيها الشيخ: ماذا قلت؟. قلت: لماذا الآن وليس قبل ذلك؟. تأمل الشاب في قول العجوز ولم يتبادر في ذهنه الا أمراً واحداً، إن هذا الرجل توهمه شخصاً آخراً يعرفه، خاصة وانه لم ينظر الى الشاب، ولم يكلف نفسه عناء الالتفات. فتوجه الشاب للعجوز بالسؤال: وهل تعرفني؟. العجوز: لو كنت أعرفك ما سألتك!. ازدادت حيرة ودهشة هذا الشاب، ما هذا الكلام، وبأي لغة يتكلم هذا العجوز! هيئته ووضعه يدلان على انه ليس بمجنون أو خرف. فلأصبر عليه واجاريه حتى أقف على أمر هذا العجوز، ثم إني لابد أن أسأله عما جئت من أجله. رد الشاب مجيباً على سؤال العجوز بذكاء: أليس الآن هو الوقت المناسب. العجوز: بلى، أنت أعلم بذلك. سأل العجوز: ألم يأن الأوان بعد؟. الشاب محدثاً نفسه: ما هذه البلوة؟ وكيف يجاب هكذا سؤال؟ لأستوضح منه دون أن أُشعره أني أجهل ما يقول: وأي أوان منهن؟. العجوز: صدقت، لكن أجبني على الأول فهو الأولى عندي. الشاب محدثاً نفسه وربما هي من حدثته: هنا لا مجال للعقل، فلن ينجدني الا سبيل الجهل، سأجيبه بما يأتي في ذهني مهما كان الآتي.
أجاب الشاب: لم يبقَ الا القليل يا شيخ!. الرجل العجوز سائلاً: ما رأيك بعملي الأخير؟. ينقصه القليل. هكذا أجاب الشاب، بما تبادر في ذهنه. العجوز: كنت أشعر بذلك، لكني تكاسلت عن سد النقص. الشاب قائلاً في سره: الحمد لله كانت اجابتي موفقة!. العجوز قائلاً: انطفأت النار!. الشاب محتمِلاً: ربما يقصد النار الموقدة تحت ابريق الشاي. فأجابه الشاب: مادام هنالك حطب فسوف تستعر من جديد. العجوز: وهل سيكون ذلك؟. الشاب: الكل يجمع من الحطب بمقدار ما تحتاج ناره. فزع العجوز من كلمة الشاب ورغم ذلك لم يلتفت الى الشاب انما بقي نظره شاخصاً على تلك النقطة من البحر. فقال الرجل العجوز: هل اراك ثانية؟.
الشاب: وهل رأيتني الآن حتى تراني ثانية؟! نزلت دمعة من عين العجوز. استغرب الشاب من ذلك وحدث نفسه قائلاً: هل قلت ما أزعجه أو احزنه؟ هو لم يرني ولم يلتفت لي ولم أقل الا الصدق. ثم توجه الشاب للشيخ بالسؤال: ألم تتعب من تركيز نظرك على نقطة واحدة؟. العجوز: أليس هذا هو المطلوب؟. ومن الذي طلبه حتى يكون مطلوباً؟ هكذا رد الشاب. العجوز: هذا ما اعتقدناه، أليست هي النقطة الأبعد وهي الأفضل؟. الشاب: ربما هي الاجمل لذلك تجذب اليها النظر وليس بالضرورة أن تكون هي الأفضل. ضحك العجوز وقال: تريد أن تختبرني!. الشاب: كيف أجعل هذا العجوز يلتفت لي، لكي أسأله عما جئت من أجله، فلا يوجد على الساحل غيره. سوف استدرجه. أيها الشيخ الكريم: ليس هذا محل الاختبار وانما قد يكون القريب خير من البعيد، وربما كان الذي ينفعك خلفك أو بجانبك وليس أمامك. ظهر الاضطراب على العجوز وبانت عليه علامات التحيّر، لكنه استجمع قواه وتمالك نفسه، وقال: هل تريد القول إن نظري خاطئ أو أنني استعجلت الطلب؟!.
الشاب يكلم نفسه متحيراً: ماذا يقول هذا العجوز وعن ماذا يتحدث؟ هل يتحدث مع نفسه وانا لم أُدرك ذلك؟ أم أنه على موجة وتردد غير الموجة والتردد الذي أنا عليه! فلأصبر عليه حتى أقف على قراره. فقال له: أيها العجوز الصالح أنت لم تطلبني وإنما أنا من طلبك، ولو أنك طلبتني لألتفت لي انما أغراك منظر البحر عن النظر الي. فأضطرب الشيخ اضطراباً شديداً وقال: لو أني تركت الامر اليك لكان خير لي، ثم سقط مغشياً عليه. وبعد برهة أفاق العجوز والتفت الى الشاب وقال: وعليكم السلام، أهلاً بك بُني، ماذا تريد؟. قال له الشاب: أردت أن أسألك عن هذا المركب الذي عن يمينك من صاحبه؟. قال العجوز: صاحب المركب يقال له إبراهيم ومسكنه على يمين المنارة القديمة.
فشكر الشاب العجوز وانصرف. ثم قام العجوز متناولاً عصاه وحمل ابريقه وأطفئ ناره ثم استدبر البحر وانصرف.
بارك الله تعالى بكم