هنالك حالة مثيرة للانتباه يعيشها أغلب أفراد المجتمع ، والأغلب ماقت وكاره لهذه الحالة ، هي حالة الرتابة أو الروتين بالمصطلح الحديث، بحيث ترى الفرد يكرر نفس المفردات الحياتية يومياً على مدى سنين وربما طوال عمره ، ما لم يدّاركه الله تعالى بمنعطف أو حدث يجعل له انعطافة وتغيير في حياته، فترى العامل أو الموظف أو حتى طالب العلم يعيش في دائرة محدودة بمفرداتها ومغلقة عن أغيارها، وقد يصل به الحال إلى صعوبة الخروج منها إن أتيح له الخروج ، وربما أكثر من ذلك ، فطول الفترة التي يقضيها مع هذه المفردات تولد له الاستقرار على ما هو عليه ، فيخشى ويدفع كل طارئ يحاول أن يغير ذلك الروتين ، فتصبح ضالته هي الاستقرار على ما هو عليه من أصول ، فيغلق أبواب التغيير والتي هي أبواب عطاء بصورتها الواقعية، {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [ الأعراف : 176] .

وهذا الأسلوب الحياتي يجعل الفرد محدود العطاء لنفسه ولمجتمعه، فيكون مضيّع للطاقة الفردية بالتالي لطاقة المجموع .

والسبب في ذلك: هو خلو حياة الفرد من هدف يستهدفه ويكون هو المحرك والمنوع والمثري لحياته ، لأن الأهداف تعمل على تحريك حياة الإنسان حركة إجبارية ،لأجل بلوغ الغايات .

المحرك الأكبر لهذه الدنيا هو الإنسان ، فتتحرك الحياة وتتطور بتحرك أبناءها ، حيث ربط الله تعالى حركة الدنيا بحركة الإنسان ، من خلال الدوافع التكوينية والدوافع التشريعية ، فما أوجده الله تبارك وتعالى في الإنسان من صفات ، هذه الصفات تطلب أفعالها، تطلب تحققها في أرض الواقع ، وهذا لا يكون إلا عن طريق الأفعال ، فصفة حب الخير تطلب تحقق أفعال الخير ، تطلب رفع الظلم ، تطلب دفع الأذى عن العباد ، وصفة الرأفة تطلب مساعدة المحتاج وتطلب إغاثة الملهوف وهكذا . ليست هي محركات ومؤثرات فردية يتطور من خلالها الفرد فقط ، إنما لها آثار غيرية، وبهذه الآثار تُحرك نظام الدنيا.

وأيضاً الدوافع التشريعية : هي عبارة عن مفعّلات لصفات الخير المودعة في الإنسان ، وردّ ومنعٌ من انحراف هذه الصفات في تطبيقاتها ، أعني أفعالها . فعند ورود الأمر التشريعي بالأمر بالمعروف ، فهو عبارة عن فعل يحرك المجتمع نحو الأفضل ، نحو تخليص المجتمع من عقبات وموانع الرقي لديه . عندما يأتي أمر تشريعي باستحباب صلاة الجماعة ، فهو عبارة عن أسلوب لربط أفراد المجتمع وتقريب المسافة بينهم والاحتكاك فيما بينهم، الذي ينتج تكميل الأفراد بعضهم لبعض من خلال التقارب الكلامي أو النفسي أو ألصفاتي .

لكن رغم وجود هذان المحركان ، فالفرد قد يكون قليل الحركة، فيأخذ الشيء القليل من هذه المحركات ، ويقتصر على مفردات قليلة ثم يسدل الستار على البقية ، فيُميت جوانب كثيرة من إرادته وقابلياته ويعطل صفات كثيرة ، فمثلاً يقتصر في الدوافع التكوينية على ما يحقق له مصالح محدودة وضئيلة ، ويقتصر في الدوافع التشريعية على واجباتها وشيء من مستحباتها ، ثم يغلق دائرته على ذلك ، عندئذ أصبحت حياته روتين ومفردات مُتكررة يوماً بعد يوم . وعند التدقيق نراه لم يعش من سنته إلا أيام معدودات ! وذلك لأن أيامهُ أصبحت مستنسخة من يومٍ واحد أو قريبة الصورة من ذلك ، فأصبح أسبوعه مثلا يوماً واحداً لأن كل أيامه متماثلة ومتشابهة ، وأصبح هو عبارة عن مستواه في ذلك اليوم الأول ، وهذا واقعاً ظلم لأيام الإنسان ، الرسول الأكرم يقول : ( لا بارك الله في يومٍ لا أزداد فيه قرباً ) وفي موطن آخر يقول : ( من تساوى يوماه فهو مغبون ) ! مغبون لأنه جعل من اليومين يوماً واحداً .

إذن هي مشكلة ويجب أن نتعامل معها على أنها مشكلة وليست واقع حياتي لا بأس بمسايرته .

والخروج من هذه المشكلة يكمن بإيجاد أهداف ،إما هدف كلي طويل الأمد أو أهداف جزئية قصيرة الأمد ، والعمل على تحقيقها بما أوتي الانسان من سبلٍ وجهد ، يفرض على نفسه تحقيق تلك الأهداف ، أنا لا أعلم كيف يعيش الإنسان بدون هدف ؟! ينبغي أن يعيش الفرد لأجل أن يحقق الأهداف التي وضعها لنفسه أو التي وضعت له ، لا يقتصر على أقل المجزي . أن يجعل له هدف يعيش من أجله ، بل يجعل سبب وجوده في الزمان المعين هو هذا الهدف ، سواء كان هدف سنوي أو شهري أو أسبوع أو حتى يومي. العاقل لا ينام حتى يضع هدفاً لغده ، هدفٌ يعود بالصلاح لنفسهِ أو مجتمعِهِ . عندما تضع لك هدفاً خلال هذه الفترة ..مثلاً إصلاح إنسان مفسد أو فاسد ، تكون قد أوجدت معنى لحياتك أوجدت غاية سامية لعيشك خرجت من قيد الاعتياد، وتكون قد ساهمت بإصلاح المجتمع ، إصلاح الدنيا ، بل أكثر .. تكون قد غرست إنساناً في ساحة رضوانِ الله ، نقلتَ فرداً من جهنم الخزي والهوان الى الجنان والرضوان ، بمعنى تشفعت له في الدنيا قبل الآخرة ، بماذا؟ بجعله هدفاً لإصلاحك . عندما يكون هدفك في هذا الأسبوع أن تقرأ الكتاب الفلاني ، تكون قد أضفت شيئاً جديداً وأحدّثت تغيراً في شخصيتك .

عندما يكون للفرد هدف يعيش لأجله يصبح لحياته معنى حقيقي، وترتفع قيمة ذاتهِ لديه وتصغر في عينه الكثير من تفاهات الدنيا التي يراها الانسان الخالي من الهدف كبائر ومعضلات ، لأنه انشغل بهدفه عن هذه الأمور وبَعُد عنها ، والبعد عن الأشياء يجعلها صغيرة ، عندما تكون لدى الفرد أهدافاً في حياته سوف تجبره هذه الأهداف على ترك الأمور العبثية والتي سيراها لا تناسب طريقته في تسيير أموره ، لا يرى لغير المصالح الحقيقية قيمة حقيقية ، لا يبقى له وقت فراغ يدفعه إلى النزول إلى ما لا ينبغي النزول إليه ، لأن وجوده أصبح له قيمة وهي تحقيق أهداف ذات معنى أرضي أو سماوي .

عندئذ يكون أحدنا قد خرج من مصاف الهمج الرعاع الذي يأكل ليعيش ويعيش ليأكل، وأصبح في مصاف أرباب الغايات وأصحاب الأهداف . وإن استمر على هذا المنوال فسوف يستنكر اليوم الذي ليس له فيه هدفاً ويراه يوماً ليس له قيمة أو وزن .

ولا يحتاج وضع الأهداف إلى خبير بما أن الغاية الكلية أو الكبرى واضحة وهي وصول الإنسان إلى أعلى المراتب الممكنة من إنسانيته .

وكذلك يستطيع الفرد أن يستهدف أكثر من هدفِ في فترة واحدة ، فإن إمكانياته كانسان تساعد على ذلك ، على رغم وجود مسؤولياته الدنيوية والأخروية . لكن يجب أن يبدأ الفرد بأهداف بسيطة ثم يتصاعد وينوع بأهدافه ، فليس من الصحيح أن يبدأ بالأهداف الكبرى وإن كان يرى أنه بحاجة إليها ، فربما صعب عليه تحقيقها وبالتالي ستثبط همته وتنكسر إرادته .

والحمد لله رب العالمين

منتظر الخفاجي