التمــــلق
من الفتن التي اتبلي بها أصحاب السلطة والمال وأصحاب المناصب الدنيوية والأخروية، هو التملق أو الملق.
وهو لغة: الزيادة في التودد والثناء والدعاء، ورجل مَلِقٌ: يُعطي لسانه ما ليس في قلبه، وتقول: تملقه وتملق له فكلاهما صحيح.
وقد ورد النهي عنه في عدة أحاديث، ونُسب التملق إلى ضعف الإيمان وسوء الخُلُق.
ومن المعلوم بالوجدان أن الإنسان لا يتملق لأخيه من أجل غرض أخروي، لأن الآخرة لا تُنال بالتملق للعباد، كذلك ليست الآخرة بيد أحد من العباد، وهذه من نعم الله تعالى علينا، إذن الدافع هو الحصول على غرض دنيوي من المٌتَملَق له، حيث يظن المتملق أن الأسلوب الأمثل للحصول على مآربه هو التملق، إذ يراه الأسلوب الأسهل والمناسب لنفسه والأقل كلفة والأكثر أثراً – هكذا يرى – فيتخذ هذا الأسلوب وان استدعى ذلك تقليب الحقائق.
وليس لكل فرد قابلية التملق والقدرة عليه، إلا أن يكون لديه نقص معتد به في إيمانه ودنو في أخلاقه، فإذا نزل الفرد في إيمانه استساغ التملق وسهل على نفسه، يقول الرسول الأكرم: ( ليس من خُلُق الإيمان المَلَق ) [ نهج الفصاحة ص509] وعن علي بن ابي طالب (ع): ( إياك والملق، فإن الملق ليس من خلائق الإيمان ) [ ميزان الحكمة ج2 ص -2918]. فكما أن نزول مستوى الإيمان يصاحبه الحسد والحقد والغيبة وغيرها، كذلك يصاحبه الملق، والعكس صحيح.
ومن جهة أخرى فمن دواعي التملق هي ثقة الفرد بما في أيدي الناس أكبر من ثقته بما في يد الرحمن جلّ جلاله، ولو تملق للرحمن لأغناه عن الذلة للعباد، انما ضعف الإيمان وقلة الأدب.
والذي يُسهّل على الإنسان تملقه، هو اعتقاده بأن من يتملق له اقل منه ذكاءً وأدنى فطنةً – وان كان يُظهر غير ذلك أو يتوهمه – حيث يرى أن المقابل يغتر بتملقه من الثناء الذي لا يعتقده بقلبه، علماً أن الأغلب هو العكس، فإن أكثر الذين تتملقهم الناس لا يخفى عليهم ذلك، لأنه يدرك أن ما نطق به المتملق من الوصف والثناء لا ينطبق عليه، كذلك أصبحت لديه خبرة من كثرة تملق الناس له – فأنت لست الأول! – فليس المرء جاهل بنفسه حتى يخدعه المَلَق، إلا أن يريد هو أن يُخدع.
وللتملق أضرار عدة سواء للمتملِق نفسه أو المتملَق له، ومن الأضرار التي تلحق المتملق:
أولاً: إن الملق يُدخل في الكذب والمبالغة وتقليب الحقائق وتزييف الأمور.
ثانياً: غالباً ما يُدخل (الملق) صاحبه في الذلة، لأن التملق واقعاً هو أسلوب من أساليب التذلل، وبالتالي فهو مُسقطٌ لشخصية المتملق ومُنزل من قدره.
ثالثاً: إن نجح في تملقه أو جاراه المقابل، فإن ذلك سيزيد في دنوه أخلاقاً وإيماناً، حيث سيثبّت هذا الأسلوب في قلبه ويعتمده كأسلوب ناجح يحقق من خلاله مصالحه، فيتخذه لقضاء أكثر مآربه، ويكون جزءاً من شخصيته يصعب انفكاكه عنها.
رابعاً: إن المتملق إذا لم يحصل على غايته ممن تملقه أو صدر من ذلك الشخص ما يغضبه، فسوف ينقلب ذلك التملق ذماً والثناء شتماً، كما نراه الآن جهاراً نهاراً في كثير من الأشخاص -في عصر السرعة والتملق! – عندما تُضرب المصالح تنقلب الرجال، لأن التملق لسان ملاء وقلب خلاء. والذي بدوره يسقط ما بقي من شخصية المتملق.
أما بالنسبة لضرره على الشخص المتملَق له:
فإن كان الشخص واعيا ومدركاً فهو بعيد عن الضرر، إنما التخوف على الإنسان غير الناضج، فإن التملق يسبب له الغرور والزهو بأفعاله والتعالي، لما يرى من تملق الناس بين يديه ونسبتهُ إلى ما لا يُنتسب له على وجه الحقيقة، وكلما كثر الملق زادت نسبة الاعتقاد بنفسه والاعتداد بذاته، حتى يصل إلى التفرد في التجبر والاستعلاء، لأنه يعتقد أن الناس ترى فيه ما لا يراه هو في نفسه ، فيُصدّق الناس ويُكذّب نفسه ، يقول الأمير (ع): (كثرة الثناء ملق، يُحدث الزهو ويُدني من الغرة ) [غرر الحكم ص 467 ]، بل قد يصل به الأمر – أعني المتملق له- إلى أنه ينزعج ممن يبين له حاله الواقعي، بل ويراه واهما أو مبغضاً، وهذه من البلايا الجسام التي ساهمت في صنع الجبابرة.
الكل يعلم أن الوصول إلى أصحاب السلطة أو أصحاب المال غير مقتصر على أسلوب التملق، بل لو أن الفرد الذي يريد التقرب إلى المقابل، أدى الأعمال التي تنفع ذلك المقابل على وجه الحقيقة، لتقرب له ونال الزلفى عنده بأسرع من التملق وأرسخ واثبت، ويكون محموداً واضح السيرة عزيزاً في نفسه وفي عين غيره. يقول الأمير (ع):( إنما يُحبكَ من لا يتملقكَ ويُثني عليك من لا يُسمِعُك) [ غرر الحكم ص 7851] فإن أسمعك فليس بثناء، إنما ضواحك صفراء ومكامن غبراء.
– وله المنة –