الخليل

الخليل 1
كان الشاب جالساً في المتنزه يفكر في أمرٍ كان قد شغل ذهنه الى حدٍ كبير، هي آيةٌ سمعها ولم يقف على فهمها، ولم يجد جواباً شافياً لا من الالسن ولا من المكتوبات، وفي هذه الاثناء جاء رجل كبير بالسن قد أعيتهُ خطوب السنين وأنهكه التعب المجهول، استأذن بالجلوس فأذن له الشاب. ثم توجه الشاب سائلاً العجوز: أرى عليك التعب يا عمَّ هل تحتاج الى شيء؟
أجابه العجوز: شكراً لك يا بني، لقد قدمت من بلدٍ بعيدٍ، فربما هي آثار السفر، فأنا غريب عن هذا البلد.
الشاب: وما الذي أعجبك بهذا البلد الميت؟
العجوز: ربما الآن أصبح ميتاً أما قبل ثلاثة أيام فقد كان في أوج حياته وحركته.
الشاب: وكيف ذلك؟
العجوز: ما قدمت بلدكم حباً به أو احتياجاً له، فبلدي أكبر وأغنى، لكن كان لي فيها خليل جئت لزيارته ولولاه لما دخلت هذا البلد.
الشاب: وما تقصد بقولك عن بلدنا أنه (قبل ثلاثة أيام كان في أوج حياته)؟
العجوز: لأنه قبل ثلاثة أيام توفي خليلي الذي جئت لأجله، فبلدكم عندي رجل واحد.
استغرب الشاب من كلام العجوز ثم سأله: أيها العم ما نوع علاقتك بصديقك هذا؟
رد العجوز: كان كنفسي، أُريد له ما أُريد لنفسي، وأُبعد عنه ما أُبعد عن نفسي.
رد الشاب قائلاً: وهنا تنتهي حدودها؟
العجوز: بل تتعدها الى ما هو أعلى وأعمق.
الشاب: مثل ماذا؟
العجوز: أقدم رغباته على رغباتي، وأجد له العذر في كل زلة أو تقصير، إن أصابه مرض أو مكروه دعوت الله تعالى أن يحّول ذلك المرض والمكروه لي ويدفعه عن خليلي، واُبعد عنه كل ما أحتملُ أنه يسبب به الانزعاج، وهناك ما هو أعلى من هذا مما لا يستوعبه جيلُكم بل وغير جيلكم.
الشاب: وهل يعاملك هو بالمثل؟
العجوز: قطعاً لا يهمني ذلك، فهي صداقةٌ وليست تجارةٌ.
الشاب: هذه علاقة غريبة.
الشاب: يا عم ربما بعثك الله لي وقد أجد ضالتي عندك، فإن سمحت فسأطرح عليك سؤالاً، فإن توفرت لديك الإجابة فلك جزيل شكري وامتناني، وإن عجزتَ فأنت معذور عما عجز عنه أهل العلم.
العجوز: وهل تتوقع أن أجيب عما عجزت عن إجابته العلماء؟!!
الشاب: ربما، فقد يجهل العالِم ما يعلمه الجاهل.
سُرَّ العجوز بكلام الفتى وقال له سِل لله درك.
قال الشاب: أنت قلت إن هذا المتوفيَّ خليلك؟
العجوز: وأنا صادق.
الشاب: ما معنى خليل؟
العجوز: الخليل هو الصديق الخالص أو ما يسمى عندنا ب -الخليص- ولا يكون إلا واحداً وما دونه فهم أصدقاء أو أصحاب.
ردّ الشاب: صدقت يا عماه، فالخليل هو الصديق الخالص هذا هو معناه في اللغة العربية ولا يختلف اثنان في معناه.
الشاب: فما تقول يا عم في قوله عز وجل: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)؟.
العجوز: المعنى واضح وهو أن الله اتخذ من هذا الانسان خليلاً له، وكل من يقرأ الآية أو يسمعها يعرف أن هذا معناها، فما الذي ترمي إليه؟.
الشاب: لكن العلماء يخالفونك في ذلك، حيث أنهم يقولون: لا يجوز على الله ان يتخذ صديقاً، لأن ذلك من شأن المخلوقين والله منزه عن ذلك، فلا يتناسب مع عظمة الله وعلو مكانته وكماله المطلق، وهو غني عن الصديق أو الصاحب.
اضطرب العجوز ولاحت على وجهه ملامح ممتزجة بين الدهشة والغضب ثم قال: سبحان الله ولا إله إلا الله! هو يقول أنا اتخذت خليلاً ونحن نقول له لا يجوز لك ذلك!!! وأنت غني عن ذلك!! هل توجد قباحة وسوء أدب أكثر من ذلك؟ من نحن؟ ومن نظن أنفسنا؟ حتى نفرض على إلهنا وخالقنا ومالك رقابنا أفعاله وأعماله، ونجوّز له ولا نجوّز؟ وهل كل ذلك إلا لأننا نتوهم أننا علماء؟! وإننا درسنا وحللنا واستنتجنا معارف بعقولنا الملوثة بطمع المعرفة وشهوة العلم؟ ثم متى عرفناه أو عرفنا عنه شيئاً على وجه اليقين؟ كل ما موجود في عقولنا عن الله جل وعلا هي ظنون وأوهام وصور منتزعة من نصوص مُنزّلة على مستوى عقولنا المتدنية وقد أوجزها الإمام محمد الباقر -عليه السلام- إذ قال: (كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم).
الشاب: لكن الله غني عن الصديق واتخاذه للصديق خلاف الغنى.
العجوز: والله غني عن الحبيب وقد اتخذ محمداً حبيباً، وغني عن الرسل فيستطيع أن يتصل بعباده مباشرةً؛ بل وغني عن كل العباد والخلق، هل يجب أن لا يخلق لأنه غنيٌ عن الخلق؟ وهل على الغني أن لا يفعل شيئاً لأنه غني؟! هذا أمر عجيبٌ وسخيفٌ.
بني العزيز: لو كنت تملك موكب من السيارات وفي يومٍ ما رآك أحدهم وانت راكبٌ في سيارة تكسي وأوقفك وقال لك: لا يجوز لك أن تركب التكسي لأنك غني وعندك سيارات كثيرة، ما تقول عنه؟ أجبني؟.
الشاب: أقول: إنّه أحمق ومتطفل تدخل فيما لا يعنيه.
العجوز: جيد. أوليس الله يفعل ما يريد؟
الشاب: أجل.
العجوز: إذن له أن يفعل كل فعلٍ هو يريده سواء كان ذلك الفعل كبيراً بنظرنا أو صغيراً، ثم ألم يتخذ الله من الكافرين والظالمين أعداء (فإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)؟ وطالب أنصاره من المؤمنين أن يتخذوا هؤلاء أعداءً، فهل عظمته وكبرياءه وسعة كماله المطلقة تُجوِّز له أن يتخذ أعداءً ولا يتخذ أخلاء أو أحباباً؟.
الشاب: ان الله تعالى عندما اتخذ من الكافرين أعداء هو لأجل المؤمنين أو لاستحقاق الكافرين وليس لذاته هو.
العجوز: ومن قال إن الله اتخذ ابراهيم صديقاً ليس لأجل إبراهيم؟
الشاب: بعض أهل العلم يقول: إن الخلة بمعنى الاحتياج، والخليل هو المحتاج، أي إنَّ إبراهيم سُميَّ خليلاً لأنه محتاج وفقير الى الله تعالى، ولأن إبراهيم لم يجعل فقره وفاقته إلا لله تعالى.
وقال بعضهم: الخليل الذي ليس في محبته خللٌ، أي لأن الله أحبه واصطفاه.
وقال البعض أيضاً: خليلاً يعني ولياً، وقال غيرهم: إن الخلة هي الشراء أي أنه اشترى مرضاة الله.
العجوز: ههههه لقد اضحكتني.
نستجير بالله من شياطين العقول. كل هذا الجهد والتعب في البحث والاستنباط والربط البعيد وجذب الرأي الهزيل لكي يُخرجوا الكلام عن معناه؟!.
بُنيَّ أسألُك: هل تعلم لماذا يلجأ بعض المفسرين الى تأويل آيات القرآن؟.
الشاب: لعدم وضوح ظاهر الآية، أو لمخالفة الآية لبعض الثوابت أو الاحكام.
العجوز: هذا موجود لكنه الأقل، انما أغلب التأويل يعود الى عدم ملائمة الآية أو الحديث لأفكار ومعتقدات الناظر للآية، فيحاول بأي طريق أن يجرَ الآية لتأييد فكرته ومناسبة مستواه العقلي.
حينما أننا قيّدْنا اللهَ بقيود أفهامنا، وحددنا صورتهُ بحدود أفكارنا، ووضعنا له مساحةً محدودة، وأرسينا قواعدَ ومبادئَ وعظّمناها وخطّئنا كلَّ من خالف هذه القواعد، ثم أثبتنا أن الله تعالى لا يمكن أن يخالف العقل (عقولنا طبعاً) وجعلنا عقولنا القاصرة الملوثة هي المقياس؛ حينها اضطررنا الى أن نؤول كل آية خالفت عقولنا وصرفنا كل معنى قرآني لم تستوعبه عقولنا عن وجهته؛ حتى ضيّعنا أنفسنا وضيّعنا ربنا، وكلما بحثنا عنه في زوايا وجودنا وكياننا لم نجده ووجدنا صورة مشوهة أو احتمالاتٍ متضاربة لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع.
بُنيَّ العزيز: كلُّ انسان يرى الله من زاويته، وكلٌ قيّد صورة الله -أعني الصورة الاعتقادية- التي في ذهنه بمستوى ادراكه وليس مَنْ تسميهُم العلماء بمنأى عن ذلك؛ لهذا تجد الاعتقاد بالله يتغير في كلَّ جيلٍ، فكلما تصاعد الفرد أو المجتمع إيمانياً وعقلياً وثقافياً تغيرت عنده بعض الاعتقادات وتوضحت الصورة الالهية في قلبه أكثر من السابق.
والآن أريد أن أوجه لك سؤالاً:
الشاب: تفضل.
العجوز: قلنا أنَّ الخليل في لغة العرب هو الصديق والقرآن نزل بلغة العرب، ثمَّ إن الله تعالى حينما كلمنا أراد منا أن نفهم كلامه وإلا ما كان كلامنا، ما تقول في ذلك؟.
الشاب: هذا منطقي وصحيح.
العجوز: جيد. حينما يقول الله عز وجل أنه اتخذ فلاناً خليلاً؛ إذنْ هو يريد أن يُفهِمَنا ويوضحَ لنا أنه اتخذ فلاناً خليلاً، ولو أنه أراد أن يُفهِمَنا أنه اتخذ رسولاً لقال -رسولاً- ولم يقلْ خليلاً، ولو أراد أن يبين لنا أنه اتخذ فلاناً فقيراً أو ولياً لقال ذلك، أما أن يقول أنه اتخذ خليلاً ويقصد معنى آخراً، حينئذٍ لن يصل المعنى المراد إلينا من لفظة -خليلٍ- إنما يبقى المعنى في علم الله فقط، وهذا عبثٌ والله تعالى لا يفعلُ العبث.
إذن هو يريد من كلمة خليلٍ معنى خليلٍ.
الآن ننظر من جهة أخرى حتى نفهم هل يناسب الله أن يتخذ خليلاً أو لا يناسبه -كما هم يقولون- فيجب علينا أن نفهم الخلة تطبيقياً وعملياً وما تنطوي عليه من أفعالٍ وأعمالٍ والتزاماتٍ.
نقول: الخلة تعني الصداقة الخالصة، ثم نسأل: وما تعني الصداقة عملياً؟
أجيبُ على ذلك: تعني الصداقة عملياً:
أولاً: الصدق مع الصديق.
ثانياً: أن تقدم مصلحته على مصلحتك.
ثالثاً: أن تدفع عنه السوء ما استطعت.
رابعاً: أن تُظهر محاسنه وتكتم مساوئه.
خامساً: أن تحفظ غيبته وتكتم سره.
سادساً: أن تثق به.
هذه أهم وأبرز ما انطوت عليه الصداقة من أعمال أو معنى تطبيقي.
السؤال هنا: اليس الله تعالى حقق هذه الامور مع ابراهيم عليه السلام؟
الشاب: نعم؛ بل وحقق أكثرها مع أغلب عباده.
العجوز: وهذا هو المعنى العملي للخلة، وليست الخلة هو أن يضع الخليل يده بيد خليله ويذهبوا للمقهى! حتى نستنكره على الله تعالى.
أضف الى كلِّ ما فات أننا نفهم علاقة الخلة بمنظورنا نحن كبشر ولا نعلم ما هي حقيقتها أو معناها العملي عند الله تعالى، فقد تعني عند الله تعالى شيئاً آخراً، ربما الاجيال القادمة تفهمه أفضل منا.
الشاب: وهل هناك من وصل الى هذا المقام غير إبراهيم عليه السلام؟
العجوز: حسب ما ورد من أخبار أن الرسول محمد (ص) وصل الى هذا المقام حيث قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ ابراهيم خليلاً) أما غيرهما فلا نعلم فربما اتخذ الله غيرهما ولم يخبرنا بذلك، فلا يوجد دليلٌ معتبرٌ باختصاص مقام الخلة بإبراهيمَ ومحمدٍ عليهما السلام.
الشاب: جزاك الله عني كل خير يا عم لقد أفدتني وحللت لي معضلة أثقلت كاهلي وأرقتني، وقد سألت عنها كثيرٌ من أهل الاختصاص ولم ألقى منهم جواباً شافياً. فأشكر الله تعالى أن أرسلك لي، وأشكرك لتحملك أسئلتي.
العجوز: الله وحده من يستحق الشكر، فكل أعمالنا لا تستحق الشكر أو الثناء، فكلها ناقصة بنقصنا. والآن أسمح لي بالانصراف.
 
 
منتظر الخفاجي

اترك تعليقاً