الشذرة الرابعة من الصحيفة السجادية

الشذرة الرابعة من الصحيفة السجادية 1
من مناجات الراغبين
 
يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين -عليه السلام-: ((إستشفعتُ بكَ إليكَ)).
في هذا المقطع، يسلّط الإمام زين العابدين الضوء على مفهومٍ أساسي من مفاهيم التعامل أو أدب التعامل مع الحق تعالى، ويكشف عن مرتبةٍ من مراتب التوحيد الفعلي للحق جلّ جلاله.
فمن المفاهيم المعمولة بين الناس هو مفهوم الشفاعة، وهو التوسّط للغير لجلب منفعة أو دفع مضرة، وقد تكون في الدنيا كما يستشفع أحدنا بأحد أصحاب الجاه لأجل التوسّط له عند شخص آخر لطلب حاجة أو دَين أو تأجيل موعد أو غيرها من الحاجات التي لا يجد السبيل لتحقيقها بنفسه؛ بل يحتاج إلى شخصٍ مؤثّر وله حظوة ومقبولية عند الطرف الثالث، وهذا موجود ومعمول به فيما بيننا.
وكذلك الأمر بالنسبة للعالم الآخر أو أقله في مرحلته الأولى فالشفاعة موجودة، وقد أقرّها الحق تعالى وجعلها من ضمن أنظمة عالم الحساب الأخروي كالتشفع بالرسول (ص) والأنبياء وآل البيت والأولياء والشهداء والصديقين وغيرهم كما نصّت على ذلك الأخبار. وقد سُميَ الرسول (ص) بالشفيع الأكبر لما له من دور كبير في مقام الشفاعة لأمته وغير أمته مما يراه هو، ومن المؤكد أن الشفاعة مقيدةٌ بإذن الله تعالى (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (سورة طه، الآية 109). وكلّ هذا من المسلّمات لدى عامة المسلمين.
لكن الإمام زين العابدين طرح هنا مفهوماً جديداً لم يعهده المسلمون ولا غيرهم، وهو شفاعة الله تعالى، والتي قد يكون فيها شيءٌ من الغرابة حيث الشفيع هو المستشفَع إليه، وعلى الرغم من ذلك فليس هنالك مانعٌ عملياً من ذلك. ثم إن الإمام -عليه السلام- أطلق هذه الشفاعة الإلهية ولم يقيدها بمُوطنٍ دون مُوطنٍ آخر، وهذا يعني أنها تشمل الموطَنين، أعني موطن الدنيا وموطن الآخرة.
ففي الدنيا: حينما يكون الفرد بحاجة إلى من يشفع له عند شخص آخر لقضاء حاجة أو تسهيل أمر أو غيرها من موارد الاحتياج، فيجعل الله تعالى هو شفيعه ووسيطه إلى من له حاجة عنده، فيقول (يا إلهي أريدك أن تشفع لي عند فلان لأجل قضاء حاجتي أو تحقيق بغيتي) والله تعالى لا يخيب من رجاه ولا يرفض من أتاه، فيكون الله عزّ اسمه شافعاً ونعم الشافع لذلك الفرد، وقطعاً سيتحقق مطلبه.
القسم الثاني: الشفاعة الأخروية وهي على مرتبتين:
الأولى: أن يكون الله تعالى شفيعاً لأحدِ عباده المدانين، كمن كانت عليه تبعاتٌ لأحدِ الخلق فيستشفع الله في ذلك، ويكون الحق جلّ جلاله وسيطه إلى من أراد. وهذا ممكنٌ وجائزٌ وخاصة إذا تعذّرت شفاعة الشافعين من الرسل والصالحين، وشفاعة الله مقبولةٌ لا محالة عند كلّ خلقه. فسيشفع الله لعباده ممن توجّه إليه بطلب الشفاعة.
المرتبة الثانية: وهي المشار إليها في كلمة الإمام زين العابدين -عليه السلام- وهي اتخاذ الله شفيعاً إلى الله جلّ جلاله، أي اتّخذه شفيعاً ومستشفَعاً إليه. نعم قد تكون غير ملتفتٍ إليها لكن حين التحقق ستجد هذه الطريقة هي الأكمل والأعلى من كلّ أقسام ومراتب الشفاعة السابقة الذكر. وتوضيح ذلك:
إن من أراد أن يتّخذ شفيعاً فلا بدّ أن يتحرى أموراً في ذلك الشفيع وأهمّها:
أولاً: أن يكون أهلاً لكلّ مطلبٍ، فلا يبخل ولا يردّ من سأله.
ثانياً: أن تكون لديه إمكانية الشفاعة من قدرة التأثير والجاه الرفيع والمقبولية لدى كلّ شرائح ومراتب الخلق.
ثالثاً: أن أضمن من خلال هذا الشفيع تحقيق مطلبي وعلى نحوٍ قطعي وليس احتمالي.
رابعاً: أن يقبل هو بأن يكون شفيعي بين يدي حاجتي.
خامساً: أن يكون محباً لي كي لا يتهاون في طلبتي.
سادساً: ألا يرى سوء فعالي وأخطائي مانعاً عن السعي الجادّ في غايتي.
سابعاً: أن تكون لديه القدرة على التشفع من توفير الأدوات كالعقل الراجح وقدرة التأثير وبلاغة الكلام وطهارة الباطن المؤثرة لا شعورياً وغيرها من الأدوات.
وكما هو واضحٌ فإن هذه الخصائص والشروط كلها متوفرة في الله تعالى، بل أن بعض هذه المطالب ليس لأي إنسان القدرة على تحقيقها وخاصة في بعض مواقف يوم القيامة، فهناك من يتعذّر الشفاعة له حتى من قِبل الأنبياء، إنما القادر الوحيد هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (سورة المدثر- الآية 48) وهذه شملت كلّ مراتب الشافعين إلا أن يتدخل الله تعالى بنفسه.
لذلك فإن الشفيع الأعظم والذي لا يمنعه مانعٌ عن كلّ مراتب وأنواع الشفاعة هو الله تعالى سواء في الدنيا أو الآخرة، وقد أوضح الله تعالى ذلك بقوله: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (سورة الزمر، الآية 44). وهذا يوضح أن شفاعة الأنبياء ومن سواهم هي في حقيقتها شفاعة الله تعالى؛ وإلا لولا الإذن الإلهي بالشفاعة لهؤلاء لما تحقّقت شفاعة الأنبياء والأولياء وغيرهم.
فهنا فتح الإمام زين العابدين أعيننا إلى أن الأولى هو تشفيع الله تعالى دون سواه، وأن سواه يكتسب حق الشفاعة بفضلٍ من الله تعالى وليس من مرتبته أو عبادته، وعلى الرغم من وجود الشفعاء إلا أنهم مهما بلغوا من مراتب الرحمة والمحبة للخلق فلن يبلغوا مرتبة محبة الله تعالى لك أو إرادة الله تعالى لك من الخير والنجاة.
ولهذا نرى في هذا المورد أن الإمام زين العابدين لم يستشفع بجده الرسول الأعظم أو أبيه الإمام الحسين؛ إنما استشفع بالله جلّ جلاله لمعرفته بالله وعمق علاقته بربه ورؤيته لقدرة الله تعالى.
ثم من جهة أخرى قد يشعر الإمام (ع) -أو يريد أن يُشعرنا- أن الاستشفاع بمن هم دون الله تعالى يشوبه شيءٌ من الإشراك الدقيق، أو فيه انتقاصٌ من قدرة الله تعالى، أو أنه يجعل ذلك الشفيع أقرب إليه من الله تعالى، هذا قد يكون منظوراً من قِبل الإمام عليه السلام.
فقوله: (استشفعتُ بكَ إليكَ) أي إنني أريدك يا إلهي أن تكون أنت شفيعي عندك وأنت سفيري إليك، -فما أحلاها- وهذا من أعلى مراتب التوحيد وأرقى مواطن الالتفات وأشرف درجات محبة عبداً لمولاه.
التطبيق:
لمن أراد أن يعمل بمفهوم الشفاعة بأعلى درجاتها مع إحراز النتائج المتوخاة على صعيد الدنيا والآخرة:
أولاً: أن يجعل الله تعالى هو شفيعه الأوحد في كلّ ما يحتاج معه إلى شفيع في أموره الحياتية، فلا يقدم أحداً على الله عزّ اسمه لا من الأحياء ولا من الأموات، نعم حينما يرى أن الله لن يتشفع له – وهو محال- حينئذ فليتوجه إلى من شاء من أبناء التراب.
ثانياً: الاتكال على شفاعة الله في يوم القيامة، فربما قلت في نفسك أن الرسول (ص) سيشفع لي أو أن الحسين (ع) سيشفع لي، أقول نعم هما وغيرهما من الأنبياء والأولياء من أهل الشفاعة، بل الرسول هو الشفيع الأكبر على مستوى الخلق لكن قد لا يأذن الله تعالى له بالشفاعة لك، أو هو يرفض أن يشفع لك، هنالك ستبوء بالخسران العظيم. فاجعل اعتمادك على من هو أقرب إليك منك، واتكل على من فاضت محبته لك عليك. هناك ستفوز بما يغبطك عليه أهل القيامة. ومن توجه إلى الله تعالى في الشفاعة دون سواه فقد أتى أمراً (تَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (سورة النور، الآية 15).
 
 
 
 
النجف الأشرف

منتظر الخفاجي

شكرا لترك بصمة تواجدكم معنا .........