الباب السادس عشر
الصـدور والقــلوب
الصدر : هو مكمن الإنسان والذي يحوي على الاستعدادات القابليات والنوايا والارتكازات ، التي تُكوّن المخزون القلبي والنفسي للإنسان أو ما يعبر عنها بباطن الإنسان ، فما يستخرجه الإنسان عادة يكون من الصدر سواء كان ما يستخرجه نفسي أو قلبي.
وأما القلب :فهو الجوهر الثاني للإنسان إن قلنا أن الروح هو الجوهر الأول ، وهو كائن في الصدر يخلص إليه ما يخرج من الصدر ، وكذلك هو موضع النوازل الملكوتية واللاهوتية.
وقد أودع الحق تعالى قابليات كثيرة في صدور الناس منها ما يكون أساساً للمسير المعتدل ومنها ما يكون أساساً للمسير المنحرف. واستخراج المرء لمراده من صدره يكون عبر أسلوبين وهما.
الابتلاء الاختياري : وهو الذي يختاره المرء لاستخراج ما في باطنه من الحقائق المشتملة على اليقين وحسن الظن والإرادة وصفاء النية والمعارف وغيرها مما يساهم في تصاعد الإنسان في سلم الكمال إن كان من أهل التصاعد.
والأسلوب الثاني هو البلاء الاضطراري : وهو من النظام الإلهي بشقيه العام والخاص ، وبه يُخرج الله تعالى من مكنون نفس الإنسان ـ واعني صدره ـ الاستعدادات اللازمة والتي يقررها مستواه المتقدم ، قال تعالى : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } [آل عمران : ١٥٤] وهو جوهر النظام الإنساني المعنوي ، أي ليبتلي الله ويمتحن ما في مرتكزاتكم وقابلياتكم من الصفات الحسنى والمقامات العليا ويخرجها من طور القوة إلى طور الفعل والتنفيذ ، فتخرج من حيز الصدر إلى حيز القلب ، { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } وذلك بتخليصه مما ظهر معه من مكمن الصدر من الملازمات السفلى كالخواطر الشيطانية والأحوال الدنية والعلائق الدنيوية والميولات إلى الجهة السفلية وغير ذلك.
أما بالنسبة إلى مخزون الصدر فبانتسابه إلى الجهة العليا وقوامه فيها فانه لانهائي العطاء ، وأما من جهة الصدر فإنه متناهي.
أما القلب فهو يواجه النفس للاتصال بعالم الناسوت وكذلك هو مدخل الروح للاتصال بعالم اللاهوت ، إذ إن له وجهان أو قل ظاهر وباطن فيتصل من ظاهره بجهة النفس ومن باطنه بجهة الروح عن طريق الصدر.
واعلم : إن الخواطر الملكوتية والإلهامات الإلهية والكشوفات الحقية والنفحات الربانية النافذة عبر الحواس المعنوية كلها تطرق طريق القلب فهو كما قلنا بوابة الجهة العليا لعوالم الدنيا.
والمفروض حسب النظام العام إن ابتلاء الصدر يؤهل إلى الغاية الإلهية من وجوده ، وهو التخليص التام له من الاستعدادات الفعلية الناقصة والتي تُقوّم النظام التسافلي فلا يبقى في الصدور إلا الأسباب والآلاء الإلهية والتي تشرف على القلب لتساهم في التكميل المعتدل للإنسان ، قال تعالى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [العنكبوت : ٤٩] أما في غيرهم فإنها غير بينات لطغيان جهة الظلمة الصدرية على جهة النور ، لهذا جعل الحق تعالى المحاسبة شاملة ليس فقط للأفعال إنما للنوايا والمرتكزات ، واعني المحاسبة وليس المعاقبة ، وبالتالي لتخليص باطن الإنسان من الشوائب الإنسانية الملازمة للصفات المنزلة حين التنزيل في القالب الإنساني { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } [البقرة : ٢٨٤] أي يُدخلهم في بلاء التطهير ، والذي هو سوط من سياط الحق تعالى يسوق به عباده للتجرد من صفاتهم النفسانية الدنية ، وإظهار ما في بواطنهم من الكمال وتنقية الشوق إلى الكمال المطلق من ملابسات الطبع الإنساني والذي يكون هو الدافع للمسير الحق وبالتالي للوصول إلى الفناء الصفاتي وتجلي الصفات الإلهية.
وإن من أهم موارد الاستخراج الإرادي للقدرات الكامنة في الصدر هي عن طريق المجاهدات والمخالفات.
أما علاج أمراض الصدور أو الأمراض الباطنية للإنسان فإن الحق تعالى قد وضع علاجاً لذلك إذ يقول جلَ ذكره : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس : ٥٧] وهو الشافي الوافي ألا وهو الكتاب العزيز والذي حوى على شفاء لكل أمراض الصدور سواءً منه ما في مستوى الأخلاق أو المصاحبة للمقامات والبرازخ بل والعوالم الباطنية اجمع.
وأعلم إن العقول ليست هي القلوب وان للقلوب إرادةً وإدراكاً خاصاً بعالمها كما أن للنفس إدراكاً خاصاً بعالمها ، نعم تتحد النفس والقلب من جهة العالم ، لكن كل يعمل على مستواه ، وأما العقل فله عالمه الذي يطلب كماله فيه سواء بالاتصال ألملكوتي أو الناسوتي.
( وسبحان من جعل عرشه قلوب عباده )
ادامكم الله سبحانه وتعالى سماحة ابونا الحبيب دام فيضكم وعطاؤكم
ادام الله تعالى وجودكم