الباب السابع عشر
الكــرامــــة

هي فعـل خارق للنظام الطبيعي المعروف، صـادر من عالم الملكوت وهي من النعم الرحيمية، وكثيرا ما تكـون لـدى أصحاب الباطن، ويهبها الحق لمستحقها أو مريدها على أي مستوى كانت من مستويات الدنيا وكذلك الآخرة.
ويعتمد استنزالها على أمرين هما: الصفاء واليقين، لذا يكون أصحاب الصفاء القلبي أقرب إلى الكرامات من غيرهم. وفي الأغلب يلازم اليقين الصفاء. ومن هذه الكرامات، معرفة أمور غيبية والدخول إلى النفوس وشفاء الأمراض وطي الأرض ومعرفة ما في الضمير وإدخال الأفكار إلى العقول وتغيير الأشياء وغيرها مما لا يحصى. ولا تكون الكرامة في مستوى واحد إنما في مستويات عديدة من العالم الواحد، وعلى قدر الصفاء واليقين والإرادة يكون مستوى الكرامة من الجهتين، جهة صدورها وجهة تأثيرها، وغالباً ما تتقيد بقيد الإرادة لأن أغلب الكرامات هي بإرادة الإنسان وطلبه وليست بإرادة إلهية خالصة دون طلب من الإنسان، نعم يكون بعضها كذلك.
هذا، وإن إنزال الكرامات من الحق تعالى لعباده لابد وأن تكون لـه فوائد. ومن تلك الفوائد:
أولاً: إن بعض الكرامات لها فائدة للمجتمع بصورة عامة، حيث يعطي الحق بعض الكرامات التي تنحصر بها فائدة المجتمع، فيهب الحق ذلك من عدة طرق ومنها طريق الكرامة، ومن ذلك علاج بعض الأمراض المستعصية.
ثانياً: إن في بعض الكرامات فوائد أخروية لا دنيوية، من قبيل أن يُكرِم الحق عبده بفتح بابٍ من علم العواقب، فيعلم به المُكرم عواقب أفعال الناس، فيكون أسلوباً من أساليب الهداية.
ثالثـاً: إن في الكرامـة مصـالح خاصـة تكون للمُكرَم نفسه، ومن ذلك أنها من أقوى طرق التحفيز وتقوية الإرادة للمسير في طريق الكمال، وكذلك فإنها توجِد الاطمئنان للطريق الذي يسلكه الإنسان، حيث يرى التجاوب الإلهي معه في هذا الطريق بأسلوب الكرامة.
رابعاً: تَعطي الكرامة شيئاً من المعارف، أو قُل اليقين بصفات الحق سبحانه والذي يكون أقوى وذا أثرٍ إن كان مادياً ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ |البقرة: 260| فالاطمئنان ناتج من زيادة اليقين. وأكثر صفات الحق لا يحـصل لدى النـاس اليقيـن بها إلا بالمعايشة والتذوق المادي، لأن أغلب العقول مادية بالمعنى المعروف، فتكون المعرفة بهـذا الاسلوب معرفـة راسخة بالنسبة لهم.
والفوائد الجزئيـة للكرامة كثيرة فباب الكرامة باب واسع ومن دخله صعب عليه الخروج منه، وقد لمسنا ذلك من بعض أرباب القلوب حيث لم يستطع الخروج من الكرامات حتى بعد بيان ضررها.
وفـي بعض الطرق الباطنية رياضات معينة، لكل رياضة كرامتها الخاصة، فعند الانتهاء من تلك الرياضة يحصل المرء على كرامة من الحق جل شأنه.
واعلم: إن الحق لا يعطي الكرامة إلا بعـد الطلـب الإسـتعدادي الحـقيقي؛ لأن هـذا الطلــب هو الاسـتعداد لنزول الكرامة وتحمّل مسؤوليتها، أما دون ذلـك الاستعداد فليس من كرامة. فلا نزول للكرامة إلا بعد الطلب، هذا جانب.
أما الجانب الآخر فهو ضـرر الكرامـة.
بما أن دائرة الكمال تكون تصاعدية وتنازلية، وبما أن مقابل عالم النور عالم الظلمة، فمن هذه الأصول يكون التفرع. والأشياء بالمنظار الباطني القـريب تحـمل أضدادهـا، فوجب أن يكون لكل شيء طرفان، ولكل طرف القابليـة للمسير في الخط الملائم له، عندها يقع التخيير الإلهي للمخـلوق سـواء كان إنسانا أو ما دونه في دائرة الوجود. أما خلو أي شيء من أحد هذين الطرفين فانه سيؤدي إلى مقدمات تخـل بالعدالـة والعلم بالنسبة للحق عند التجريد، وكذلك توقف الكمال الخاص للمخلوق عند التجريد. فمن ذلك أصبحت الأضرار ملازمة للفوائد في الوضع الأول، لكنّ الإنسان مخير إن شاء أخذ هذا أو ذاك، وللعقول القابلية على الفـعل، ولكن أين ذاك الفاعل؟ فلا يكون إلا بعد البقاء الثاني ولا تعرف الأشياء من بعيد، إذ العبد ليس بعـدم إنما هو وجـود، وللوجـود تأثير على الوجـود، فمـن ذلك وجب بالعلم الإلهي أن يكون هنالك ضرر. لكن من كان ضرهُ أقرب من نفعه، وجب تركه بالوجوب العقلي، وان كان نفعه أقرب من ضره وجب فعله.
فمن أضرار الكرامة:
أولاً: إن الكرامـة كثـيرا مـا تولد الركون النفسي، لان الأمور الغريبة على الظاهر تولد الفرح القلبي مما يؤدي إلى الركون إلى هذا الفعل وإعطائه أهمية أكبر من استحقاقه، ثم بعدها إحاطته بإطار وهمي، حتى يصل إلى أن يكون هذا الإطار هو الأصل وليس الكرامة. وهناك يكون الانغماس في وهم الوهم.
ثانيـاً: إن الاخـتلاف عن العامـة بأمر ظاهري خارق للنظام العام كثـيرا مـا يولد بعـض الأمراض الباطنية، كـالتعلق بالكرامة، أو العجب أو حب الذات وغيرها من الأمراض الموجبـة للتـوقف أو التسـافل. وهـذا من ضمـن الأسباب الباطنيـة للتكـتم على الكرامـة، وان كـان السـبب الأكبر هو الحفاظ على الظاهر وعدم خرقه.
ثالثـاً: إن طبيعـة الكرامـة هي طبيعـة دنيوية مصبوغـة بصبغة باطنيـة، لأننـا ربما قلنا أو لم نقل إن الكرامـات لا تكون بالأمور الباطنية فليس من كرامة في إدراك الباطن أو معرفة الأسرار الإلهية، إنما يكون التعمق في الباطن والوصول إلى أسراره بالعمل الموصل له، فإن طبيعة الأسرار الباطنية الحقية أو الخلقية تحتاج لاستعداد عالٍ لتحمل وطأة نزولها وكتمانها، على عكس الكرامات فإنها لا تحتاج إلى هذا التحمل.
والكرامة تكون بالأمور الدنيوية، فيكون الدخول في الكرامات هو رجوع للدنيا، وما فائدة الكمالية للإنسان لو عَلِم كل الغيوب؟ هل سيقربه هذا العلم إلى الحق سبحانه؟ قطعاً لا؛ بل هو للبعد أقرب منه إلى القرب.
وبصـورة أخرى يصعـب عـلى المريد الخروج منها، وقد يولد له استعداداً نفسياً لنزول كرامات أعلى منها مما يوصله إلى البقاء في عالم الكرامات.
رابعـاً: إن أغلب الكرامات لا تكون عطاءً من الحق دون طلـب العبد لها. وطلبها هو نـوع من أنواع الإشراك البـاطني، فإن نية المريد لا تكون خالصة للحق؛ بل فيها شيء من الإشراك، والإشراك إشراك سواء كان صغيراً أم كبيراً، باطناً أم ظاهراً، والأكـبر من ذلك هو أن يُقرن الحق بالكرامة وهي من خلق الحق. وإذا دخل الإشراك فـي النية الأصل صعب إزالته، فكل ما يأتي من هذا الإشراك هـو تثبيت له وتقليل من الطرف الثاني من النية وهو الحـق حـتى يصـل الإنسان إلى أن يكون مراده الحقيقي غير الحق، فيحجب عن الوصول إلى حضرة القدس. هذا إن كان في بداية طريقه، أما لو حصلت إرادة الكرامة في خطوات متأخرة فسوف يتغير مسيره مـن خطٍ إلى خطٍ آخر اقل من الأول كمالاً إلى أن يصل بعد التدرج فـي هذا العالم كمن كانت نيته الكـرامة.
خامساً: إن استخدام الكرامة إذا كانت ذات تأثير عام أو خاص كتغـيير بعـض الأمور الدنيويـة من شيء إلى آخر، فإنّ استخدام المرء لها لا يخلو من أمرين:
أحدهما: عدم القناعة بالفعل الإلهي، وهو ظلم لصفات الحق، لأن معناه نسبة الجهل للحق، تعالى عن ذلك.
ثانيهما: هـو وجود دافع نفسي، أي تحقيق لرغبة نفسية سواء في الشيء نفسه، أو ما وراء ذلك الشيء، وكلا الأمرين يُعد حجاباً.
أما إعطاء الكرامة للناس من قبل الحق، فمن ذلك، إن الحق يهب الكرامـة لكل مـن أرادها سـواء كان باطنيـاً أو ظاهرياً مؤمناً أو غير مؤمن، إنما الشرط الأساس لنيلها هو الإرادة الحقيقية لها والاستعداد. لأننـا نـرى أحيانـاً بعـض أصحاب الكرامات لا يخلو من الإمراض الأخلاقية المخلّـة بالظــاهر فضــلاً عن البــاطن إن كــانوا أصحاب بـاطن.
وإذا أعطاها الحق بغير طلب الإنسان فغالباً ما تكون لأجل التحفيز على المسير الجـاد فـي الطـريق، فإذا وصل الإنسان إلى ما أراد الحق له وجب عليه تـرك هـذا المحـفز سواء كان بعدم العمل به أو الإدبار عنه أو بأي أسلوب آخر، فالحق لا يسلب نعمة أعطاها، إلا أن تكون برغبة الإنسان سـواء كـانت بعدم القناعة أو بفعلٍ يخل ببقاء تلـك النعمـة. وهذا هو السبب الرئيس لإعطاء هذه النعمة.
هذا، وان الــترغيب لا يكــون إلا لضعفــاء اليقيــن وإلا فمن كـان الحـق غايته، والمعرفة طريقه، والصبر زاده، واليقين سلاحه، فليس بحاجة إلى كرامة أو كشف أو معجزة.
والواجـب على طالب الكمال أن لا يطلب الكرامة لأنها ليست من كماله المطلوب، وأما إن وهبها الحق لعبده فتُأخذ منها الفوائد للوصول إلى الغاية لا أن نُنقص بها كمالنا. وأما إن كانت الكرامة فيها تحقيق للمصلحة العامة فإن لها شأن آخر.
والبقـاء فـي طوق الكرامة يمنع السائر عن إتمام مسيره، فإن كانت نية العبـد خالصـة لوجـه الحـق فلا يُعطى أي كرامة إنما يعطى وجه الحق سبحانه، وهذا ذلك يحتاج إلى التجرد من المصالح النفسية الخاصة وهذا أمر مستصعب، لكنه ليس ببعيد.
وأخـيراً أقـول إن الكرامـة ليسـت هي الحق إنما هي ما دونه، وطبيعة ما دون الحق إما أن يوصل للحق أو يحجب عنه، والكرامـة هي للحجاب أقرب منها للإيصال، حيث يستطيع الإنسان أن يصـل بغـير الكرامـة لأن النظام متكامل ولا يحتاج إلى شيء من الخارج.
(وله الحمد والثناء أن لا بخل في ساحته)
شارك هذا الموضوع:
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة) فيس بوك
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة) Telegram
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة) WhatsApp
- النقر للمشاركة على X (فتح في نافذة جديدة) X
- اضغط للمشاركة على Pinterest (فتح في نافذة جديدة) Pinterest
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة) طباعة