بــــابٌ
قال عزّ وجّل: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا….) الآيات 35-36-37 سورة آل عمران.
في هذه الآياتٍ المُباركاتِ فتحَ اللهُ تبارك وتعالى لنا باباً من أبوابِ العلاقة مَعه، أي علاقة المخلوقِ بخالقهِ.
وذلك بما أن المُراد الكلي من إيجاد الخلق باختلاف هيئاتهم وأشكالهم وقابلياتهم ومراتبهم هو بناءُ علاقةٍ حقيقيةٍ شاملةٍ لكلِّ جوانب المخلوق النفسية والقلبية والعقلية والروحية، وما انطوت عليه هذه الجوانب من صفاتها وأحوالها، في رُقيّها ودُنوّها، والتي توصِلُ المخلوق – أعني العلاقة – إلى مستوى العبودية العليا الداعية لكسر كل القيود الوهمية والاعتبارية والتوّحد بالقيد العبودي لله جلّ جلاله وعلا مَكانه.
فعندما يُخبرنا الله تعالى عن امرأة عمران، وهي امرأة ليست بمعصومةٍ أكيداً إنما لها مستوى من مستويات اليقين وحسن الظن بربها سبحانه، فيقول لنا جلّ وعلا: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) فإن هذه المرأة الطاهرة نَذرت لله ما في بطنها، وبمعنى آخر أرجَعَت مِلكية ما في بطنها لله تعالى ولم تجعل نفسها شريكةً لله في هذا الجنين، لا الآن ولا بعد ولادته.
فما الداعي لهذا النَّذر؟ وما أسبابه؟ وهو أن تنذر هذا الجنين لله تعالى؟ ولم تجرِ العادة عند البشر أن يهبوا لله ما يتوهمون أنهم يملكونه إلا بمقابلٍ، لأننا، ومع شديد الأسف، نعامل الله تعالى كما نعامل بعضنا بعضاً، أو نعامله – وإن كانت غير لائقة – كما نعامل البقّال، خذ وأعطني، ونتناسى ونتغافل عن أنه هو البادئ بالعطاء، وعطاءه لا يُحصى، فضلاً عن أنه أهلٌ لنُقدِم له كل التضحيات لعدم وجود من يستحقها غيره سبحانه، وكل ما دون الله هو أدنى استحقاقاً من الله تعالى بما لا يتناهى، وترانا نتقرب إلى ما دون الله بالاحترام والتواضع والهدايا والتضحيات، وبعد… والنذور!، ونحن نعلم أن من نتقرب إليه هو عاجز مثلنا، ولا نتقرب إلى الله تعالى بذلك، لا نتواضع لله تعالى، لا نقدم التضحيات إلى الله تقدّس اسمه، وكلنا يُدرك أنه هو الغاية وليس دونه إلا أهدافٌ وغايات قصيرة وهزيلة متناهية بأي حال من الأحوال.
نعود إلى الموضوع، وهو أنها قدّمت هذه التضحية أو النَّذر بما رأته وعرفته عن الله سبحانه، عرِفَت إن الله تعالى يستحق أن نقدم له أفضل ما لدينا (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) الآية 92 سورة آل عمران، ليس فقط الأموال! بل كل ما تحبون أو أكثر ما تحبون، فتنفقون الراحة، وتنفقون الاستقرار، وتنفقون السمعة الحسنة، وحُب المدح، وحُب النفس والوِلد، بل كل ما يحبه الإنسان، فلا حصول ولا وصول إلى درجة الأبرار حتى تنفقوا مما تحبون، وينبغي أن يكون الداعي لهذا الإنفاق هو حُب الله تعالى، فلا تستطيع أن تُنفق مما تُحِب إلاّ أن تُحب الله أكثر من الشيء الذي تريد إنفاقه، وإلا فلا إنفاق، لأن من أحب شيئاً أكثر من حبه لله تعالى يَصعُب عليه بل يستحيل أن يُقدم ذلك الشيء لله، وأنا إن كنتُ بهذا المستوى المُتدني فمعناه إني لا أحُب الله! إنما ما أفعله من إعطاء الحقوق والصدقات هو من باب ( كِفيان شَرٍ، أتكّفى شر الله! ) شر عذابه، إذن علاقتي بالله علاقة خوفٍ، وهي أردأ أنواع العلاقات وأدنى الدوافع للعبادة.
وبالمقابل إن كنتُ لا أُحِب الله تعالى وذلك بدلالة عدم وجود الإنفاق مما أُحِب، فالعكس صحيح، وهو إن الله تعالى لا يُحبني، لأني لا أستحق ذلك، وإذا بَعُدَ العبدُ عن محبة الله بَعُد تلقائياً عن محبةِ أولياء الله.
الشيء الآخر الذي عرَفَتهُ امرأة عِمران وتيقنت منه، هو أنها عاجزة عن تربية وتنشِئة هذا المولود، وهنالك من هو أقدرُ وأعرفُ بتربيته، لأنه هو الذي كوّنه وهو الذي صوّره وهو الذي قدّر له رِزقَه وهو الذي أودعهُ كل الصفات والقابليات والاستعدادات التي بها يستطيع أن يصل إلى ما يريده الله تعالى منه خلال حياته.
فإذن … توكيل الله تعالى بهذا المولود هو خيرُ وسيلة لضمان نجاح هذا المولود في الدنيا والآخرة، لكن ذلك يحتاج إلى مستوى مُعتَدٌ به من الثقة بالله وحسن الظن به، وبعد؟ .. ومعرفة نفسي وضعفها وعقلي وقصوره، فكثيراً ما رأينا مصداقَ ذلك، وهو أن هنالك أُناسٌ أخيارٌ متورعين اعتمدوا في تربية أبنائهم على حولِهم وقوتهم دون حول الله وقوته، فباءوا بالفشل الذريع ونشأ أبنائهم عكس ما يُريدون، وكذلك هنالك أُناسٌ لم يكُن آباءهم على ذلك المستوى من الإيمان فأنشأهم الله تعالى نشأةً طيبة.
إذن المربي الحقيقي هو الله جلّ جلاله، وإذا كان الإنسان على يقينٍ من ذلك، فلماذا لا يُشرك الله في تربية ما هو عاجزٌ عن تربيته؟ إنما السبب في عدم إشراكه تعالى في هذا، هو سوء الظن بالله أو الغفلة التامة عنه وعن قدرته، وكما يقول جل شأنه في الحديث القدسي: ( أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً).الكافي ج2 ص72.
فقد كانت هذه المرأة الصالحة على معرفة بقدرته وعظمته سبحانه، وكذلك على معرفة بعجزها عن أن تصنع كصنيع الله تعالى، فهي مُدركة لنقاط عجزها وضعفها، ونقاط قوة الله وقدرته، وأقلَهُ أنه سبحانه يعلم ما في نفس ابني من فضائل الصفات ورذائلها، وشهوات ورغبات نفسه، وأنا وهي على عكسِ ذلك، لا أعلمُ من ذلك شيئاً، وإن عَلِمتُ فأنا عاجزٌ عن علاجهِ وتقويمهِ وتصحيح مسيره.
فكانت المقدمةُ هي: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي).
والنتيجة ماذا كانت ؟ (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) تقبّل الله تعالى هذا النَذر، وليس قبولاً اعتيادياً، بل بقبولٍ حَسَنٍ، أي أعلى أنواع القبول الإلهي.
والسبب في كل هذا، هو أن النَذر جاء بنيّةٍ خالصةٍ مُخلَّصة، خالِصة لوجه الله تعالى دون إشراك أي شيءٍ حتى النفس، ومُخلّصة من كلِّ شائبةٍ وسوء ظنٍ وترددٍ وإرادة شيء بالمقابل. فخرج النَذرُ طاهراً مُطَهراً .
وليس هذا فقط، بل (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أي رباها على تربيةِ السماء لا تربية الأرضِ المَشوبَةِ بأنواع التقصير والغايات الدنيوية الدّنية.
فكان الله تبارك وتعالى هو المُربي لها. وطبعاً تربيةُ الله كاملة شاملة، يربيها على الصعيدين المعنوي والمادي، فعلى الصعيد المعنوي، هو مُؤدبُها ومُعلمُها كلَّ ما تحتاج إليه في سَيرِها الدنيوي والأخروي، وكذا على الصعيد المادي، فهو كفيلها ومُعيلها ومُهيأ لها رزقها: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) الاية37 سورة آل عمران فكان هو سبحانهُ المُطعِم والمُسقي والشافي والكافي لها.
ومن زاوية أخرى: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) أين أنبتها؟ في بيته وهو المَعبد آنذاك، فكانت خادمة لله تعالى منذ صغرها، وليست خادمة للمعبد كما قد نتوّهم، إنما بينها وبين الله هي خادمة لله في معبده، كذلك الآن ، خادم المسجد ليس خادماً للمسجدِ بما هو مسجدٌ إنما الصحيح هو خادم لله في بيت الله، أو هكذا ينبغي أن يكون.
النقطةُ الأخرى : وهي: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) وزكريا نبيٌ طبعاً، ومن المفترض أن مستواه أعلى من مستوى مريم، لكن الله تعالى أراد أن يكون القائم على أمورها واحتياجاتها نبيٌ من أنبياءه.
وكفالةُ زكريا لمريم ليس عملاً ثانوياً بل هو من أعماله الرئيسية إن لم يكن هو العمل الرئيسي.
الشيءُ الآخر: هو أن امرأة عِمران عندما قدّمت هذا النَذر وهذه التقدُمة، أعطاها الله تعالى شيئاً آخراً، وهو أنه أخرج من هذه النَذر – مريم- نبياً مُرسلاً وهو عيسى (ع).
فكل هذا العطاء والفضل العظيم سببه تقديم ذلك النَذر بنيّةٍ خالصةٍ لله تعالى؛ لذلك يقول سماحة السيد الشهيد الصدر – قدس سره – : (نصف دينار تعطيه بنيّةٍ خالصة لله تستحق به الجنة).
فهذه الآية وهذا المَثلُ الذي ضربهُ الله تعالى لنا، ليس خاص بإنسان مُعيّنٍ أو زمانٍ أو مكانٍ مُعيَنَين، إنما يستطيع كلُّ واحدٍ مِنا أن يكون مصداقاً لهذه الآية، أن يخطو مثل هذه الخطوة وإن لم تكن بنفس الحجم، وإن كانت صغيرة، لا ضَيرَ في ذلك، بل ستُساهم هذه الخطوة مُساهمة عظيمة في تمتين صِلتهِ وتوطيد علاقته بالله تعالى، ويكون مِثالَ العبد الذي يُكثِر من ذكر ربه بالذكر الفعلي في كل ما يستطيع أن يَذكرُ اللهَ تعالى به. ولكي نكون على مستوى العبودية المتوخاة من وجودنا، والتي أرادها الله تعالى لنا، وسار عليها قادتنا وأرادوها لنا سلام الله عليهم.
والله المستعانُ على أنفسنا وهو حسبُنا ونِعم الوكيل
منتظر الخفاجي
2004