حقوق القيــادة على الرعيــة
وعلى أساس من ذلك ارتأينا أن نبين الحقوق الأساسية للقيادة على رعيتها لكي لا تقع الرعية بظلم قيادتها. هذا جانب.
الجانب الآخر، إن القيادة التي نحن بصدد الحديث عن حقوقها هي القيادة الممضاة من قبل العقل المؤيد بالشرع ولا أقصد القيادة المعصومة قطعاً، لأن واجبات القيادة المعصومة أوسع وأعمق مما نذكره بكثير، إنما كلامنا عن القيادة الوسطى الكائنة ما دون العصمة وما فوق سلطان النفس، أي التي تقدم مصلحة الرعية على رغباتها واحتياجاتها، والتي تسير على خطى القيادات السابقة الصالحة من الأنبياء والأولياء، وإن اختلفت معهم من جهة الأسلوب والتطبيق.
فإنْ كانت القيادة على هذا المستوى، كان لها في ذمة الرعية حقوقاً يجب على الرعية أدائها وعدم التهاون فيها، وإلا كانت رعية ظالمة عاقّة، استحقت بلاء الدنيا وهوان الآخرة.
وأبرز هذه الحقوق التي يفرضها العقل على الرعية إزاء قيادتها، وهي مرادنا من هذا البحث:
أولاً: الطاعة. وينبغي أن تكون طاعة الرعية لقيادتها، طاعة كاملة خالصة لا تشوبها شائبة التردد. فلا ينبغي أن تُردّ أو تناقش سلباً أو تُسوف الأوامر الصادرة من القيادة، بل تنفذ كما هي وفي وقتها.
وكما نعلم إن كانت القيادة صالحة سائرة على النهج السماوي، فسوف تكون هي الأقرب لنزول الأفكار الصحيحة من العالم الأعلى. أضف الى ذلك أن التردد في تنفيذ الأوامر القيادية يُفشل القيادة وإن كانت في أعلى مراتب الصلاح، إذ أن المنفذ الوحيد لتقويم الرعية ووصول المد القيادي هو الطاعة.
فينبغي على الرعية ان تكون في أعلى مستويات الطاعة بل متدرجة في مدارج الطاعة غير متوقفة على مرتبة واحدة.
من جهة أخرى ينبغي على الرعية ان تتوخى الحذر من حيث الطاعة فربما صدرت بعض القرارات فيها المنفعة الكبرى المنحصرة في وقتها، فإن عصت الرعية أو أهملت أو سوفت خسرت خسراناً مبيناً.
ثانياً: الاجتهاد. وربما هو ألصق بأصحاب المسؤولية من الرعية عن غيرهم. وموطنه حين فقدان الأوامر والإرشادات القيادية في أمر أو مسالة ما، فيجب على المتصدي لتلك المسألة أن يجتهد، أي أن يبذل أقصى جهده ليخرج بأفضل القرارات لمعالجة تلك المسألة. ومن الخطأ الفاحش أن نترك المسائل والمشاكل عالقة بحجة عدم وجود أمر قيادي.
ثالثاً: حسن الظن. والكائن بعد اليقين التحقيقي من طهارة القيادة وقدرتها العقلية والنفسية والروحية على القيام بهذه المسؤولية، حينئذ ينبغي على الرعية أن تُحسن الظن بهذه القيادة وتحمل أفعالها وقراراتها على أحسن الوجوه الممكنة، حتى وإن صدرت منها بعض القرارات التي تخالف القناعات العقلية أو النفسية لدى الرعية، حيث أن الاختلاف المرتبي الكلي بين القائد والمَقود يؤدي احياناً الى عدم الرؤية الكاملة للقرارات من قبل المقود الذي ربما يقع في ظلم قيادته إن عُدِمَ حسن الظن أو المحمل الحسن.
كذلك تضطر القيادة أحياناً الى اتخاذ بعض الطرق أو الاساليب التي تنحصر بها مصلحة الرعية، وربما اتفق أن هذه الطرق غير مألوفة لدى الرعية أو فيها شيء من الغموض الموهم للرعية بعدم صلاحية هذه الطرق لتحقيق مصالحها، فليس من مسعف لها – والحال هذه- إلا حسن الظن بقيادتها وتَذكُر المقومات الأولى التي رأتها في القيادة.
ولا ينبغي أن نغفل من أن مستوى الرعية العام هو الذي يُعيّن نوع السياسة والأسلوب والمنهج الذي تتخذه القيادة، فعند كون الرعية في مستوى متدني أو تحمل مرضاً متأصلاً فسوف تُلجئ قيادتها أحياناً الى اختيار أسلوب التدرج للخروج من ذاك المستوى أو المرض، وأعني بالتدرج هو أن لا تطرح القيادة العلاج التام أو الكامل لذلك المرض، وإنما تصدر أمراً من سنخ ذلك المرض أو قل أمراً ناقصاً ليس له القابلية لعلاج المرض، والحكمة منه هو أن الرعية بتعمقها بذلك النقص فقدت القابلية لتطبيق العلاج الكامل، فتحاول القيادة بقرارها الناقص – واقعا هو كامل بالنسبة الى المرحلة الأولى للمرض وليس ناقصاً – أن ترفع مستوى الرعية مرتبة واحدة عن المرتبة السفلى الكائنة بها ثم تأتي بعدها مرحلة او مراحل، لكن قد لا يدرك هذه المصلحة أصحاب العقول المتوسطة، فيرى أن قيادته أخطأت لأن قرارها لم يكن سوى نقل الرعية من رذيلة الى رذيلة وتراه يُطالب بالحل الجذري!. فهنا يكون حسن الظن لا غنى عنه، وليس ثمة منجد غيره، ومع عدمه يدب الاعتراض الى هذه الشريحة وبالتالي الابتعاد والحرمان من عطاء هذه القيادة.
إن اغلب ما يصدر من الانسان من أفعال واقوال وقرارات وقناعات واعتراضات ومحاسن ومفاسد تنشأ من خاطرة ترد على قلب الانسان، هذه الخواطر هي رسل أسبابها وعللها وهي أضعف حلقة في سلسلة الاعتقاد، وعليه فإن الاعتراضات وسوء الظن بالقيادات الصالحة ينشأ عن خاطر، فإن أهمل هذا الخاطر زال الاعتراض تلقائياً ولم ينتقل الى مستوى التمكين من القلب والذي يستدعي (أعني التمكين ) صدور الفعل، حيث أن الانتقال من الطرف الى الطرف النقيض يكون عبر سلسلة أولها الخاطر، فخاطر السوء إذا جاراه صاحبه تمكن منه ثم نقله الى مرتبة الشك والشك عند مجاراته يوصل الى مرتبة الظن والظن يوصل الى اليقين فينقلب يقينه من الشيء الى اليقين بضده.
وعلى أساس من ذلك ينبغي على الرعية وخصوصاً المباشرين للقيادة أن يرتقوا بمستوى محاسبة أنفسهم الى مستوى المحاسبة على الخواطر، بل أن تُعامَل الخواطر معاملة الأفعال إذ ليس من فرق بين الخاطرة والفعل إلا من جهة القوة والفعلية، أي أن الفرق زماني فقط. وعليه إما أن تطرد الخواطر من ساحة القلب رأساً أو تفند باليقين السابق بالقيادة.
رابعاً: التحمل. فمن تحققت لديه قناعة واطمئناناً عاليين بقيادته سواء بما ذكرنا من مؤهلات القيادة أو غيرها مما هو يراه حجة بينه وبين محاسبه جلّ جلاله، وجب عليه أن يوطن نفسه ويعّدها على تحمل كل ما يصدر من قيادته، وإن كان ما يصدر فيه أذى عليه أو انتقاصاً من حقه أو تضحية بشيء من ملكه أو حطّ لما يرى من مستواه ، فلربما -وكثيراً ما يحدث- أن تكون القيادة في وضع يجب عليها فيه التضحية إما بمصلحة الرعية عموماً أو التضحية بمصلحة فئة أصغر كعماله أو أهل بيته فتضطره نظرته الصالحة أن يضحي بالفئة الأصغر أو قل يضغط على الفئة الأكبر تحملا والأكثر يقيناً، وهم المباشرون له والمقربون منه بطبيعة الحال .
وكذلك فإن المعروف عن القيادات الصالحة على مر التأريخ وهي سنة الله تعالى، تعريض رعيتها لأنواع الاختبارات التي تنحصر بها مصلحتها والتي من شأنها – أعني الاختبارات – أن تسبب الضغط والحرج للرعية وربما تُضيّق عليهم، وهذه من المزالق الكبرى التي أهلكت من الرعايا ما أهلكت، فليس ثمة منجي منها إلا التحمل المبتني على حسن الظن بالقيادة. فالقائد مكلف بأن يقدم الأصلح لرعيته مهما كان نوع ذلك الأصلح ومهما كانت الطريق الموصلة إليه، طبعاً مع أخذه بعين الاعتبار مستوى الرعية.
وكذلك من مواطن التحمل، أن القيادة تضطر لمعالجة بعض الأمراض الاجتماعية عند الرعية وغالباً ما يقتضي العلاج التحمل من الرعية. بل إن من جهلة الرعية أحياناً من يطالب بإزالة مرض ما أو عقبة ما، وعند تصدي القيادة لعلاج ذلك المرض، ترى الرعية تتذمر وتسخط على قادتها بسبب ضعف التحمل وهذا ما يؤدي الى نزول الرعية الى دركات أسفل مما كانت عليه. لهذا رأينا أن علي بن ابي طالب عليه السلام عندما تسلم زمام القيادة لم يطلب من الرعية إلا طلباً واحداً وهو: ( أعينوني على أنفسكم ) [ نهج البلاغة ] لأجل أن يحقق لهم ما يصبون إليه؛ لأنه يعلم أن ليس هنالك مانع من إصلاح أنفسهم إلا أنفسهم، فليس من مانع خارجي وإن تذرع الإنسان بذلك.
حينئذ ينبغي على الرعية أن تكون على مستوى التحمل لكل ما يصدر من قيادتها، من قول أو فعل أو إقرار. وإلا فليس لضعف التحمل مزية إلا أن يُخرج الإنسان من عز الطاعة إلى ذل العصيان.
خامساً: النباهة. والتي من المفترض أن تكون عالية وخاصة للمقربين والعاملين، فيجب أن تحلل أقوال وأفعال قيادتهم؛ لأجل فهم مرادها على أعلى درجات الفهم، بل ينبغي الانتباه لكل ما يصدر من القائد حتى حركاته، كما كان يفعل المنتبهون من رعية القواد السابقين حيث نقلوا لنا حتى حركاتهم حين الكلام لما كانوا يرون للحركات من الدلالة التي لا تقل أهمية عن دلالة الأقوال.
سادساً: ومن حقوق القيادة على رعيتها الغفران. فبما أن كلامنا عن القيادة غير المعصومة، فينبغي حسب مرتبة القيادة أن تصدر منها الأخطاء، سواء في التشخيص أو القرار أو اختيار الزمان والمكان أو غير ذلك، وقطعاً بما أن القيادة صالحة فإن ما يصدر منها من خطأ يكون غير متعمد ولا عن تساهل، إنما هو مبلغ قدرتها مع المقدمات. فيجب على الرعية أن تعامل قيادتها معاملة فعلية على أنها غير معصومة وليس قولية فقط، فتقول إن القيادة غير معصومة وإذا صدر منها خطأ تراها تقيم الدنيا على قيادتها، إنما المفروض أن يلازم الاعتقاد بعدم العصمة الغفران، بمعنى أن تكون نظرتنا لغير المعصوم أقرب الى الغفران منها الى العقوبة – والمفروض هذه قاعدة عامة -لأن رابطة الغفران مع الخطأ أقوى من رابطة العقوبة مع الخطأ، وخصوصاً إذا كان الخطأ صادراً ممن بذل جهده لتجنبه.
أضف الى ذلك إن ترك القيادة بسبب صدور الخطأ منها يجعل الرعية متنقلة بين القيادات ولا يتسنى لها الاستقرار على أي قيادة لأن الكل خطّاء.
سابعاً: كما أنه يجب على القيادة أن تشعر بأغلب ما تمر به الرعية فكذلك على الرعية أن تشعر بأهم ما تمر به قيادتها من ضغوط داخلية وخارجية وبلايا وحير عقلية، التي ربما تدوم أيام والرعية لا تشعر إلا بما تريد، وخاصة وأن القيادة هي أعلى جهة إذ لا توجد جهة أعلى منها تلجأ إليها حين الحيرة والتردد والجهل، وحتى مع وجود المستشارين يبقى القرار والخيار منوط بالقيادة، وربما عجز المستشار أو مال ميلاً نفسياً الى حلٍ دون آخر، وهذا على عكس ما عليه أفراد الرعية.
وكذلك فإن القيادات ليست بمنأى عن الامراض الجسدية التي تكتمها عن رعاياها، وقد لا يخطر على بال الرعية أن قيادتها الآن قد تتألم من مرض ما. فتمر القيادات بكل ما تمر به الرعية وليس منصب القيادة يمنح حصانة من الأمراض والمصائب والاختبارات بل العكس، لكن الرعية غير ملتفته وقد لا يهمها الالتفات. فالمفروض أن تشعر الرعية ولو ببعض ما تمر به قيادتها لئلا تقع بظلم هي في غنى عنه.
ثامناً: الاهتمام الخاص بالقيادة، فإن الحياة المثلى والعيش الأسمى والرقي العام يعتمد اعتماده الأغلب على ما يصدر من القيادة، فإن سمو المجتمع ورقية حياتياً وفكرياً ونفسياً وثقافياً هو من مسؤولية قيادته. فينبغي على الرعية ان تعطي أعلى درجات اهتمامها لقيادتها من جهة متابعة أخبارها وأوامرها وكل ما يصدر عنها.
تاسعاً: تعاون الرعية وتكاتفها فيما بينها لتثبيت وتوثيق قيادتها في نفوس بعضها البعض، بإظهار المحاسن الفعلية لتلك القيادة، وترك التطرق لكل ما يزعزع الثقة بالقيادة في نفوس الضعاف من الرعية، من الاستحسانات والتمنيات والتشهيات.
هذه هي أهم الواجبات المناطة بالرعية تجاه قيادتها، وقد تكون هنالك واجبات أخرى، لكن الرعية التي تؤدي هذه الحقوق ستكون على مستوى الصلاح والانقياد والنصح لقياداتها وأولياء أمورها.
بقي علينا أن نطرح سؤالاً ربما يطرق ذهن البعض والذي هو:
ما هي الأساليب التي نستطيع من خلالها أن نميز القيادة الصالحة عن غيرها؟.
أقول: إن من يستطيع أن يميز الأعلم بين العلماء من مراجع التقليد ليس من الصعب عليه أن يميز القيادة الصالحة، وخاصة وأن القيادة أكثر ظهورا وأوضح صورة من مرجع التقليد.
هذا، وإن الطرق التي وضعت لمعرفة الأعلم تصلح لمعرفة الأصلح، على الرغم من أن الأفعال تكشف الرجال. وكذلك فإن مقارنة سيرة القائد مع سيرة القواد الصالحين السابقين تبين بعض معالم القيادة، فإن كانت قريبة من القيادات الصالحة ولا أقول مثلها يحكم بصلاحها ولو حكماً مبدئياً.
والحمد لله الذي يهب العطاء ولا يرغب بالجزاء
دمتم سماحة ابونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم
ادام الله تعالى وجودكم
كنتم ولازلتم معيناً لا ينضب سيدي ومولاي،جعلكم الله تعالى ذخراً للعالمين.
جزاكم الله تعالى كل خير
دمتم سماحة أبونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم
ادام الله تعالى وجودك
ادام الله تعالى وجودكم المبارك