التفكير الابداعي
اينما وجِد الإبداع وجِد الوعي و الفكر الحر ، أينما وجِد الإبداع وجِد التقدم والتحضر والرُّقي الانساني ، فالإبداع هو مبادرة يبديها الفرد تُثَبت قدرته على الانشقاق من التسلسل المُمِل في الفكر العادي ، واظهار أسمى صور العقل وقدرته على معالجة واقعه بطرق مختلفة، وابتكار أساليب وحلول وافكار جديدة ومختلفة كلياً، من خلال نظرة إستشراف يبديها المُفكر للواقع ، والى ما هو أبعد من الواقع أحياناً أو ما يسمى بالحلول المستقبلية، وهذا كافٍ لإثبات القدرات المودِعة لدى هذا الانسان من جهة، و داعياً لاكتشاف وتفعيل تلك القدرات من جهة أخرى .
قد لايوجد تعريف جامع لمفهوم ” الإبداع ” والسبب ؛ ان الإبداع ظاهرة متعددة الجوانب، وأن لكل مدرسة فكرية، زاوية أو منطقة نظرية تُعرّف ” الإبداع “من خلالها.
ولكن بشكل عام فالإبداع لغة : هو الاختراع، و الابتكار، والانشاء على غير مِثالٍ سابق، قال تعالى ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) بمعنى خالقها و منشؤها على غير مثال سابق.
واصطلاحاً : أنه القدرة على تكوين تركيبات أو تنظيمات جديدة، أو القدرة على التخيّل أو اختراع اشياء جديدة عن طريق التوليف بين الافكار وتعديلها أو تغييرها، أو القدرة على انتاج الافكار الأصيلة والحلول بإستخدام التخيلات والتصورات واكتشاف ماهو جديد واعطاء معاني للافكار، و عرّفته الموسوعة البريطانية بأنه: القدرة على إيجاد حلول لمشكلة ما، أو أداة جديدة، أو أسلوب جديد، أو هو ” أن ترى ما لا يراه الآخرون “، واشهر تعريف للابداع هو التفكير خارج الصندوق.
فالإبداع اذن هو انشاء أو ابتكار شيء جديد لم يكن موجود مسبقاً في أي حقل من حقول الحياة المختلفة الفكرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الصناعية، التجارية …الخ، شريطة ان يشتمل على الاصالة والمنفعة وكل ماهو ايجابي، لان الجوانب السلبية هي اضداد للإبداع ومرادفاته ” فالإبتكار مثلاً ضد الإتِّباع، والإبداع ضد الإخفاق، والإنشاء ضد الإهلاك والإنعدام ” وهكذا الى آخر الاضداد.
ولما كان التفكير من السمات المميزة التي مَيّز الله تعالى بها الانسان عن غيره من المخلوقات، واودع فيه القدرة والاستعداد الكامل للابتكار والابداع، كان تكليفه تفعيل تلك القوى وإظهارها وتوظيفها، ليكون عاقل مفكّر بالقوّة والفعل، وبذلك يوافق الإرادة الإلهية، و يدخل طور الانسانية من اجل تحقيق الغاية المنشودة.
وإهمال هذا التكليف هو اولى خطوت التسافل والانحدار قال تعالى ( لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ )
إذ ان تلك الصفة ” التفكير ” تعد قيمة حقيقة للإنسان، وعليها تدور رحى نواياه، واعماله، وشخصيته صعوداً أو نزولاً، فقد يحيا الانسان بفكرة، وقد يموت بفكرة.
والتغيرات الكثيرة والمتلاحقة في حياته تحتم عليه ان يُحدِّث وينوّع افكاره ومصادر المعرفة التي يستقي منها بما يتناسب ويتناغم مع متطلبات عصره، فكما ان الوان الطعام والشراب واصنافها ضروري ومطلوب للانسان، ويعود عليه بالنفع الكثير، كذلك تنوع الافكار وتعددها ليس ضروري فحسب، بل ان منافذ التفكير الابداعي مُقيّدة بذلك التنوّع في الاطّلاع على العلوم والمعارف المختلفة، واكتساب الخبرة في الحياة العامة والخاصة واساسياتها اللازمة لها.
وبشكل ادق أن هذا التنوّع هو مفتاح التدبير، فالمدبر تدبيره يتولّد عن الشمولية و الإحاطة بالعام والخاص، والكلي والجزئي، والملاحظة الدقيقة لجميع جوانب الحياة ومتطلباتها، فيتمكن من فهم محيطه اولاً، وتشخيصه ثانياً، ثم المبادرة الى وضع الحلول الناجعة، وزرع الافكار السليمة، وتوجيه المجتمع نحو أُسسٍ و قواعد واصول ممنهجة للسلوك العام والخاص.
فالتركيز على جانب واحد والاقتصار عليه قد يتسبب في ترهله، واهمال الجوانب الاخرى يتسبب في العجز فيها، والاغتراب عنها، والقطيعة معها، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد مئات الآلف من المجلدات والشروحات في الجانب الفقهي، مقابل عدد ضئيل جداً لا يتجاوز عدد اصابع اليد في الجانب الاخلاقي أوالعقدي أوالقرآني …!
ولذا من الطبيعي ان ينتعش الاول حَد التُخمة، ويُغفل عن الثاني رغم اصالته واهميته وافضليته الى حد الإغتراب والقطيعة، و لو أمعنت النظر تجد ان جميع الإخفاقات نتجت عن تركيز في جانب، واهمال في جوانب أخرى أولى وأهم.
أضِف الى ذلك ان البقاء على فكرة واحدة كيفما كانت دون مراجعة أو تحديث، تسبب الجمود والتحجر العقلي الذي يُخرج الانسان عن دائرة الانسانية، فالانسانية رهن التعقل والتفكير والتغيير والسعي والتكامل المستمر باستمرار حركة الوجود ، وهذا الجمود والتحّجر لا يُعطل ادوات الفكر لدى الانسان فحسب، بل يقتل الابداع، ويحجب الظهورات والكمالات المختلفة التي أُودِعت في باطن هذا الانسان.
واذا كان احياء الجانب القلبي مهم لما يترتب عليه من نتائج معنوية عُليا، فهذا لا يعني إهمال الجانب العقلي ونتاجه الذي لايقل اهمية عن الجانب القلبي، فالعقل والقلب مُتضادان مُتكاملان يرتكز الاول على المنطق والاستدلال، ويختص الثاني بالالهام والخواطر، وجديّة العقل وصلابته تلطفها رقة القلب ومسامحته، ولين القلب ورقته يهذبها حكم العقل وتدبيره، وكلاهما لاغنى للانسان وبناءه الكمالي عنهما.
باسم الخفاجي