اخطر الصناعات
– صناعة الرأي العام الجزء الثالث –

اخطر الصناعات - صناعة الرأي العام الجزء الثالث - 1
تَقدَّم في الجزئيين السابقين تعريف واحاطة موجزة لصناعة الرأي العام بتكوين وتجنيد العقل الجمعي.
وفي هذا المقال محاولة لتشريح تلك المشكلة، والوقوف عل بعض نقاط الضعف والقوة لاستخلاص الحلول والعلاجات الناجعة من رحم تلك المشكلة :
أولاً: ان الرأي العام يعتمد اعتماداً كلياً على تلقين “العقل الجمعي” وتغذيته باستمرار، بما يضمن سلامة انتقاله ووصوله من السابق الى اللاحق، وربما اضاف إليه كل جيل ما يمنحه بطاقة مرور مقدسة فيزداد ثباتاً ورسوخاً جيلاً بعد جيل، وهذا ما نجده على سبيل المثال حاضراً وبقوة في الموروث القَبلي المتعصب رغم اعتناق الاسلام والاقرار بمبادئه الرافضة لكثير من مقررات ذلك الموروث ! .
وهذا الامر بالرغم من كونه يمثل عِماد تلك المشكلة ومصدر قوتها، إلا انه يمكن اعتباره نقطة ضعفها ايضاً، والطريق المؤدي الى عكس النتائج بما يمثل من تاريخ عملي مكشوف وغير مكتوب، قد يساعد الباحث في عملية البحث والاستقصاء لدراسة وتحليل كيفية نشوء وانتقال ورسوخ تلك العادات والتقاليد والسلوكيات المختلفة، وآلية حِفظَها عبر الأجيال، وهو ما يسهل عملية مقاطعة برمجة العقل الجمعي، واعتراض عملية النقل والتلقين واجهاضها، بأعدادالبرامج والخطط البديلة، وزرع الافكار الجديدة والصحيحة .
ثانياً: ان من مصادر التغذية التي تساهم في تلك الصناعة، هي اساليب التربية الأُسرية، والمدرسية والاجتماعية، إذ يُولَد الفرد ليجد نفسه مُحاطاً بمجموعة من الاوامر والنواهي والقيود، يقابلها مجموعة من العقوبات والتسفيهِ والتنَمُّر فيما لو خالف تلك الاوامر والنواهي، فينصاع خشية العقاب، تاركاً خلفه شخصيته الحقيقية وكل طموحاته وافكاره وآماله واحلامه، وهنا تبدأ مرحلة الاغتراب والبعد عن الذات، فتتلوث فطرته النقيّة، وتتلون تلك الصبغة التي فُطِر عليها، ويعيش لارضاء الآخر .
وهذا الامر يمثل أُولى سَقَطات العقل، وبداية مرحلة القولَبة والاستنساخ، التي ولّدت حالة من الازدواجية، وأنتجت شخصيتان لكل فرد، لو جاز التعبير، شخصية مقهورة و مُنصاعَة و مُقيّدة بالجماعة، ليس لها رأي ولا قرار، بل هي مستعبدة وميّتة معنوياً بما تحملُ من فكر الاموات وتعاليمهم المتوارثة، المنبثقة من قاعدة (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا).
وشخصية بليدة خائفة محاصَرة مُنتَظِرة لمن يمُّد لها يد العون، ليخرجها من جُب التخلف والقهر الذي هي فيه.
ولذا فأن من أُسسِ التربية الصحيحة، هو استخدام الاساليب والطرق المتنوعة لتعليم الفرد كل ما يُنمّي عقلة، ويُنشأ افكاره، ويَدعم شخصيته، ويبني كيانه المستقل، وهذه أُولى مراحل التحصين الذاتي ضد الامراض والاوبئة المتوارثة، وبداية لمرحلة الاستيقاظ من سُباتِ العقل الطويل والمُرهَق الذي يعيشه المجتمع، وخطوة جريئة لفك الخِناق والتحرر والانشِقاق عن سلسلة التجهيل والاستعباد القاتلة.
وكقاعدة عامة اقدمها للقارئ الكريم، أن اغلب المشاكل يكمُن حلها بداخلها، وتتم معالجتها بذات المادة والاداة التي ظهرت بها، ومثال ذلك اذكر ما جاء على لسان احد الموحدين في بيان قوله تعالى ( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) قال ما مضمونه ان تلك اشارة الى ان الشيء لا يُتقى إلا بنفسه، منطلقاً بذلك من حقيقة (اللهم اعوذ بك منك) .
فصناعة الدروع جاءت كوقاية من الاسلحة المصنوعة من ذات المادة وهي ” الحديد “

فإن كانت تلك الصناعةوخطورتها تكمن في تكوين العقل الجمعي السلبي، فعلاجها يكمن فيه ايضاً، وذلك من خلال بناء رأي عام ايجابي بذات الافكار والادوات المستخدمة، وتكوين عقل جَمعي مناهض يرفض كل ما بناه العقل الملوث، ويقطع سلسلة التجهيل و الاستعباد، ولا ينقصنا إلا الإقدام وشحذ الهمة وترك العَجْز والخمول وتفعيل الجهود واستثمار الطاقات لتغيير واقعنا المُزري.

باسم الخفاجي

اترك تعليقاً