الباب الثامن والعشرون
علاقــة الرسول بجبرائيــل
إن علاقة الرسول الأعظم بجبرائيل على مستوى الفهم الظاهري ، هي نوع من أنواع الاتصال بالحق والاكتسـاب من فيض نوره ، فلكل درجة من درجات الخلق طريق للاتصـال بـالحق ونيـل عطاءه . وللحق تعالى طرق عدة للاتصال بخلقه مقدرة على قدر المخلوق واستعداده التكويني والكمالي.
وكـان ارفـع طرق الاتصال بالحق على المستوى البشري والمنصوص عليها هي ثلاثة. حيث يقـول جـل ذكـره : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى : ٥١] فيتبين من قول الحق ثلاثة طرق للكلام مع الإنسان ، والواقع أن هذه هي الأصول وأما التفرعات فهي أكثر من ذلك.
وهذه المستويات الثلاث هي خاصة بمستوى البشرية ، فلو تجاوز الإنسان مستوى البشرية ، وذلك بـالتجرد من الصفات الإنسانية ، فهنالك سيكون تكليم الحق ، أي التكـليم المعنـوي البـاطني. لان هـذه الصفـات تحجـب الإنسان عن التكلم مــع الحق بالمسـتوى الأعلى مـن تلـكم المسـتويات. فكان تكـليم بعض الأوليـاء أعـلى من المستويات الأولى ، والإنسان الذي في طريقه للحق دائماً في تقرب فكلما تقرب أكثر زالت الحجب التي بينه وبين الحق ومنه الرسول والوحي لان كـل مـا عدا الحـق هـو حجـاب يحجب عنه ، حتى وان كان من أساليب أو طرق الاتصـال بالحق ، لان الطريق عينه حجاب ، فوضع الأسلوب يعود إلى ضعـف المقـابل ، وعـدم وجـود التحمل الباطني للمباشرة بالاتصال.
أما كـلام الحـق العـام فهو ظاهر على السنة الخلائق فأينما تولوا فَثَمّ لسان للحق ينطق بالحق.
وعلاقة الرسول الأعظم بجبرائيل ( عليه السلام ) هي علاقة تكلم غير مباشرة مع الحق , لكن هذا لا يعني أن طريق اتصال الرسول بالحق مقتصر على هذا الطريق ، بل إن للرسول عدة طرق للتكلم مع الحق وإنما طريق الوحي بالنسبة للرسول هو طريق الرسالة ، فليست علاقة تكلم الرسول مع الحق والأخذ منه منحصرة بطـريق الوحـي حـيث إن الاتصـال بالحق عن طريق الوحي هي من الطـرق الأولى ، ومقـام الرسول ارفع من ذلك ، إذ أن بعض الأنبياء الذين كانوا يكلمون الحق اقل كمالاً من الرسول الأعظم محمد ) صلى الله عليه وآله وسلم (.
وإن للرسول كلاماً مع الحق لا يطلَع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا حتى جبرائيل نفسه ، فله أحوال كلامية مع الحق لا يتحملها إلا هو. وهو ما يخص كمال الرسول ، لان للرسول عملين على وجه العموم :
الأول : هو العمل الذي يكون فيه كمال الرسول أو قل تكليفه الخاص وليست له علاقة مباشرة بالرسالة ، إنما يتكامل به الرسول سواء عمل برسالته أم لا.
الثاني : ما كان يخص البشرية وهو تكليف الرسول بالرسالة ، وفيه كمال البشرية وليس كمال الرسول ، نعم يشمله شيء من ذلك . وهذا هو السفر الرابع للرسول.
أما أشكال تلك العلاقة فلا تُعرف على واقعها ، والظاهر أن علاقة الرُسـل بجـبرائيل هـي من الغـوامض فـي كـل الديانـات ، حـيث الفروقـات مـا بيـن الرسل وجبرائيل ، وحلقة الترابط بينهما , فذلك يحتاج إلى معرفة ولو قليلة بكل منهما في عالمي الوهم والحقيقة.
وان كـانت معرفـة الرسـول الأعظم بحـر لا يدرك غوره حيث استمرارية كمال الرسول ، ولا يعرف حقيقته إلا من وصل إليه . فمعرفـة (الحقيقـة) يسـتطيع أن يصل إليها الإنسان ويتصل بها ، ولكن ما وصل إليه الرسول اليوم من الصعب إدراكه ، ولا يَعرف العارف مقام غـيره إلا أن يكـون أعلى منه منزلة أو في نفس منزلته.
وعليه نقول : إن الملائكـة اقـل مسـتوى مـن البشرية ، حيث القابليات الاستعدادية للكمال ، فاستعداد الملائكة على الهيئة الملائكية متـوقف ولـه حـد محـدود. لكن إن تجاوز المَلك تلك الهيئة الملائكية ، اسـتطاع أن يسـتمر في كمالـه ، لأن اسـتمرارية الكمال أو قل الكمال المعمق منحصر بالهيئة الإنسانية ولا أقصد الظاهرية فقط.
وإن جبرائيل هو غاية العقول إذ عالم الجبروت ، فكل من وصل مقام جبرائيل استطاع أن يتصل بالرسول إن كان ذلك هو مستواه حيث الصلة التكوينية بين العالمين. وليس أن جبرائيل ملك بعينه إنما كل من تحقق في عالم الجبروت وكِّلَ بذلك العالم سواء كان إنسان أو ملك إن جد في مسيره التكاملي.
أما في عالم الحقائق فإن مراتب تنزل الأمر الإلهي يكون على الحقيقة المحمدية ثم يتنزل من الحقيقة إلى العقل الفعال والذي هو مقام جبرائيل ، وعلى هذا الأساس يكون العقل الفعال أقل مرتبة من الحقيقة.
واعلم : إن جبرائيل يأخذ كل معارفه من الحقيقة المحمدية وليس من الذات المقدسة ! لان جبرائيل محجوب عن الحضرة الإلهية ، حـيث قابليـته ، وكما قال هو ( لو تقدمت أنملة لاحترقت) ، وكمـال جـبرائيل هـو أن يتجاوز عالم الجبروت ولا يتجـاوز ذلـك حـتى يصـل إلى مرتبة الروح الإنساني وأعني الحقيقية المحمدية ، لأن ما بعد عالم الجبروت يحتاج استمرار المسير فيه إلى الروح الإنساني . وإلا فليس مـن تقـدم دون الروح. فينتقـل من الملائكية إلى الإنسانية وهذا المقام هو الذي يوصل إلى تلك الدرجة . ولو تجـرد الإنسان مـن الأوهام لـرأى حقيقـة الملائكة اقل مما يعتقد بكثير.
أما الحقيقة المحمدية وأعني محمداً في عالم الحقائق لا في الوهم فهي أعظم من ذلك ، إذ اتصالها بالذات الإلهية اتصال مباشر دون حجاب . فيكون فيض الذات للحقيقـة والحقيقـة تفيض على العقل الفعال ومنه إلى الرسول محمد ( ص ).
فإن أُخذت علاقة جبرائيل بمحمد على الوجه الحق ،فيكون ذلك من اجـل جـبرائيل ، وليس لمحمد فيـه شـيئاً ، لأنه أعلى من جبرائيل ، والداني لا يعطي للعالي. فمن الخطـأ أن نقـول أن محـمداً يـأخذ مـن جبرائيل وقد تبين مقام جبرائيل من جهة حقيقته ، وهو اقل من مقام الرسول بأكثر من الكثير، بل هنالك من أسرار الرسول ما لو كشفت لجبرائيل لهلك . هذا في عالم الحقيقة . وكـذلك فـان كمال جبرائيل الأغلب هو من الاتصال بمحمد , وإلا فان ذلك هو فضلـه عـلى غـيره حـيث اكتسـاب بعض الصفات التي تؤهله للوصول إلى المرتبة المعهودة.
أما ذلك النظام اعني نظام أخذ القرآن أو ما يكمله عن هذا الطريق فهو نظام أولي .
وإن كل ما هو كائن لا يكون ولا يتغير ولا يصعد صاعد ولا ينزل نازل إلا بعلم الحقيقـة وإرادتها ، وكما ورد عنهم )عليهم السلام( بما معناه ، أن إرادة الله تصدر من بيوتهم ، وإن أعمال الخلائق تعرض عليهم.
( والحمد لله وحده )
دمتم سماحة أبونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم
ادام الله تعالى وجودكم