قــاعـــدة الدعـــاء

قاعدة الدعاء 1

   المدرك: قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : ٦٠].

      المفهوم: إن هذه القاعدة من الفتح الإلهي والتي فتح الحق تعالى بها باب الاتصال به من غير الاحتياج إلى سبباً أو واسطة، إنما هو اتصال مباشر بالحق واستنزال لكل ما أراد الفرد من عطاءه سبحانه. وهو من الرحمة الكبرى، وبه يكون التعامل مع الله سبحانه وتعالى بتحقيق ما يعجز الإنسان عن تحقيقه وقضاء ما يعجز الإنسان عن قضاءه بل وما لا يعجز عنه، فان الله تعالى كرمه لازمنا إن توجهنا إليه دون ما سواه من سائر عباده وخلقه على اختلاف مستوياتهم فانه سيحقق لنا مطالبنا ورغائبنا، فيجب أن تكون هذه قاعدة اعتقاديه عملية راسخة في قلوب أهل الإيمان.

     واعلم إن الله تعالى جعل دعاءه عبادة لا دعاء فقط لأجل تحصيل المراد منه وذلك بنص الآية الكريمة:

      { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : ٦٠] أي الذين يستكبرون عن دعاءه، فليست مسالة الدعاء كما يفهمها البعض من أنها مسالة طلب فقط إنما أكبر من ذلك ولو كانت مسألة طلب حاجات لما استحقت أن يتوعد الله تاركها دخول جهنم لكنه تعالى بين نظرته واعتباره للدعاء من أنها من ضمن العبادات بل من ارفع مستويات العبادة لأنها تدخل تحت عبادة الاتصال.

      والاستكبار عن عبادته أو دعاءه ليس شرط أن يكون هو الكفر بل ربما يستكبر الإنسان باللجوء إلى ما دونه الله من الأسباب سواء العليا أو الدنيا، أو بالغفلة عن جناب الحق والاحتجاب بما يرى له أثرا ظاهريا، أو باليأس من الإجابة، وكلها داعية إلى الاستكبار أي الاستغناء عن إمداد الجهة المقدسة. وقد وعد أمثال هؤلاء من الذين يحتجبون بالاستكبار عن الاتصال بالجهة العليا والالتفات الجزائي إلى الجهة السفلى جهنم داخرين.

     وبما أن الحق تعالى جعل دعاءه عبادة إذن يتحصل للداعي من دعاءه مصلحتان الأولى هي استجابة الدعاء لما وعد الله تعالى بالإجابة مهما كان نوع الإجابة، والثانية حصوله على ثواب عبادة الدعاء بما الله رفعه إلى مستوى العبادة.

     التطبيق: اعلم إن الدعاء هو من مراتب الإيمان العملي بصفات الله سبحانه من سماعه جلّ جلاله وتجاوبه، وفي الدعاء قطع للبعد بين العبد وربه ودفع للأوهام المرتكزة عن نظام الأسباب المادي، وتضعيف للجوانب المادية والاعتماد عليها، وتقوية لجانب المعنى من اليقين وحسن الظن والاستعانة وغيرها.

     فعلى من أراد أن يزيد في إيمانه وقربه أن يلجأ إلى باب الدعاء والذي فتحه الله على مصراعيه، فلنا أن ندعوه تعالى بكل صغيرة وكبيرة ولم يشترط علينا نوع الدعاء ولا مستوى الدعاء إنما ادعوني بالكل أستجب بالكل وهذا هو منتهى القرب والوصال بين الخالق والمخلوق، قال الرسول الأعظم ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٥٦٩] وزاد بياناً الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( عليكم بالدعاء فإنكم لا تقربون إلى الله بمثله ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها لان صاحب الصغار هو صاحب الكبار)) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٥٧١] أي إن الذي يعطي صغائر الأمور هو الذي يعطي كبائرها ولا معطي غيره.

     ويقسم الدعاء على أقسام متعددة، أصولها ثلاث حسب علم الإيمان:

     أولاً: الدعاء القولي: هو الدعاء بلسان القول وهو المتعارف لدى الناس وهو أدنى أنواع الدعاء إن لم يقترن بالانعقاد القلبي.

     ثانياً : الدعاء الفعلي: محصله أن يكون المؤمن داعي لله بفعله أي يكون أداء الفعل هو دعاء لسد نقص معين أو طلب حاجة مخصوصة وهو أعلى من الأصل الأول؛ لانّ فيه تقدمة لله والتي تنم عن قوة الإرادة للحاجة، ومثاله أن يدفع الإنسان الصدقة لأجل دفع أو رفع بلاء معين فتكون هذه الصدقة عبارة عن دعاء فعلي لله تعالى لأجل إنزال رحمته، وإلا فليس للصدقات القابلية على تغيير البلاء أو إنزال النعماء لأنها لا ترقى إلى ذلك لافتقار الماديات لقابلية الرقي إلى عالم المعنى وإنما هي إرادة تجسدت بفعل والتي تصعد هي الإرادة وهي لسان الداعي.

     ثالثاً: الدعاء الحالي: وهو الذي لا يتضمن إظهار له بفعلٍ أو قولٍ، إنما حال المؤمن هو الذي يطلب كما يقال (حالي يغني عن سؤالي) فيكون حال الاحتياج هو دعاء لسد ذلك الاحتياج والله سبحانه يعتبره كذلك وقد جاء في دعاء الامام الصادق ( عليه السلام ): (( يا من يعطي من سأله ومن لم يسأله )) [مفاتيح الجنان / دعاء رجب الاخير ].

     هذا وان للدعاء جوهراً وقيمومة الدعاء علية وهو تيقن الإجابة فعلى من يدعو أن يتيقن الإجابة بل من العبث أن تدعو دون يقين بالإجابة، قال الصادق ( عليه السلام ): (( إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ فإذا دعوت فاقبل بقلبك ثم استيقن الإجابة )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٦٠٩] وليس من الدعاء ما بُني على ربما وعسى ولعل إنما أنت تدعو من لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، تدعو من اوجد خزائنه لأجلك لا لأجله، تدعو من طلب منك دعاءه وضمن لك الإجابة، من قال:

     { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ } [البقرة : ١٨٦] قريب أقرب إليك من إرادتك لحاجتك وأقرب إلى حاجتك من غيره القائل عز من قائل: { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ } [الفرقان : ٧٧]، فمن عرف ذلك وجب أن يتيقن الإجابة وإلا فدعاءه لغو { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } [الرعد : ١٤]. قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( إذا دعوت الله فاقبل بقلبك وظُنَّ حاجتك في الباب )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٦٥٤] هكذا يجب أن يكون اليقين بمن عرفنا منه القدرة والكرم والإرادة لإعطائنا ما سألناه.

       واعلم إن لكل دعاءٍ إجابة والله تعالى لا يرد سائله، فكل من طلب اخذ، قال الرسول الأعظم ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( ما كان الله ليفتح لعبدٍ الدعاء فيغلق عنه باب الإجابة، الله أكرم من ذلك )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٥٨٢] هذه أخلاقه فيجب أن نعامله بأخلاقه، ولكن من الناس من يغفل عن الدعاء أثناء الحاجة ويلجأ إلى المخلوقين المفتقرين مثله وهذا نتيجة ما سبق من سوء أفعال الإنسان والتي تكون سبباً لغلق هذا الباب في قلبه وعدم الإذن له بالدعاء بإنزال حجاب الغفلة، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( إذا أراد الله أن يستجيب لعبدٍ أذن له بالدعاء )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث  ٥٥٨٣] والإذن الإلهي هو التنبيه على الدعاء والتذكير به أثناء الاحتياج وتزينه في قلب العبد.

     وأما الاستجابة للدعاء وهي النتيجة من القاعدة فتكون على أوجه:

     الوجه الأول: الإجابة الآنية المطابقة: وهي إجابة الحق تعالى لدعاء المؤمن بتحقيق مناله وتلبية مطالبه. وتكون أوكد وأسرع إذا كان الدعاء نابعاً من قلب طاهر ويقين معتدٍ به بالإجابة.

     الوجه الثاني: الإجابة بالأصلح الدنيوي: وذلك عندما يدعو الفرد ربه تعالى لتحقيق غرضٍ معينٍ لكن الحق تعالى يرى إن تحقق مطلب العبد هذا سيؤدي إلى نزول مستواه الإيماني وذلك لان العبد نظر من جانب واحد وغفل عن أضرار هذا المطلب بل يرى فائدته الدنيوية فقط { وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا } [الإسراء : ١١] فيكون من اللطف الإلهي ألا يحقق الحق تعالى مطلب عبده عندئذ يصرف هذا الدعاء لما هو أصلح للعبد دنيوياً.

     الوجه الثالث: الإجابة بالأصلح الأخروي: وهو عندما يرى الحق تعالى بعين إحاطته ان هذا الداعي ليس له من الرصيد الأخروي ما يؤهله إلى الخلاص من العتاب أو العقاب إذ أن عمله لأخرته اقل من المرجو، فيتخذ الحق كل منفذ لرفع رصيد عبده الأخروي فمن ذلك تأجيل إجابة دعائه في الدنيا إلى الآخرة وبخاصةٍ إن كان الدعاء لأمر دنيوي ليس بذي بال فيجعل الحق تعالى دعاء عبده هذا زيادة لرصيده الأخروي حيث الاحتياج الحقيقي، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( إن الرب ليلي حساب المؤمن فيقول تعرف هذا الحساب؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: دعوتني في ليلة كذا وكذا في كذا وكذا فذخرتها لك: فمما يرى العبد من عظمة ثواب الله، يقول: يا ربِ ليت أنك لم تكن عجلت لي شيئاً وأخرته لي! )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث ٥٧٢٦].

      الوجه الرابع: الإجابة بالأصلح الإيماني: عندما يرى الحق تعالى من عبده همة في زيادة كماله وتقوية إيمانه فسوف يؤيده الله تعالى في ذلك باتخاذ شتى الأساليب ومنه أن يجعل دعاءه وذكره مرتبة من مراتب الإيمان فيحققه في تلك المرتبة عن طريق ذلك الدعاء. فإنه تعالى يقدم ما هو الأصلح لعباده.

    فليس من دعاء على الحقيقة لا يجاب؛ لان الله عز شأنه ألزم صفة المجيب بوجوب إجابة كل داعٍ.

   ومن المفيد أن نذكر قول الرسول الأعظم عندما سُئل عن الاسم الأعظم قال: (( كل اسم من أسماء الله أعظم ففرغ قلبك من كل ما سواه وادعه بأي اسم شئت )) [ميزان الحكمة / باب الدعاء / حديث  ٥٦٠٧]. 

 

This Post Has 4 Comments

  1. النور المتجدد

    دمتم ودامت فيوضاتكم الطاهرة سيدي ومولاي.

  2. محمد جبوري كاظم

    دمتم سماحة أبونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم

اترك تعليقاً