قــاعـــدة الشـكــر
المدرك: قوله تعالى: { لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ } [ابراهيم : ٧].
المفهوم: قال الراغب: الشكر: تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
أي تصور صدورها من المنعم بأي مرتبة من مراتب الرؤية.
وهو باب فتحه الله سبحانه لزيادة العُلقة بينه وبين عباده الناتجة من التعامل معه سبحانه فقد ثبّت سبحانه أن من اتجه بقلبه أو لسانه أو جوارحه إلى جهة السمو وشكر النعمة التي نزلت عليه من تلك الجهة استحق الزيادة لزاماً وكان أمر الله مفعولا، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ): (( لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العباد )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٥٩٥] أي ليس لهذه القاعدة حد تقف عنده إنما هي استمرارية قائمة على أساس المعرفة والاعتراف بين الحق وعبده فليس من شكر إلا وهو مقرون بالزيادة حسب القاعدة. فان تمت المعاملة على أساسه فقد فُتح باب لا يغلق، وواقع هذا الباب هو صلة حقيقية بين العبد والرب جل جلاله أي سبيل يقرب العبد من ربه فليس هو أسلوب معاملة فارغ وليس بمقتصر على نتائج المعاملة الملحوظة والظاهرة بالزيادة حين الشكر بل الواقع إن الزيادة المعطاة في هذه المعاملة هي أدنى العطائين وهناك ما هو أعلى من ذلك العطاء وهو المنظور في الحكمة ويتمثل بدرجة الإيمان المستفيضة من تلك المعاملة والمعدة صاحبها إلى التي تليها.
التطبيق: من أراد أن يكون شاكراً وأنْ يخرج من دائرة قوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبإ : ١٣] ويُكتب في ديوان الشاكرين عليه أن يشكر الله في موطن كرمه وفيض نعماءه المتصور بالسلب والعطاء، وهذا يحتاج إلى رؤية واضحة للنعمة وآثار المنعم فيها المستفاد من الاهتمام بهذه الجهة وعدم الغفلة عند حصول النعمة أو أخذها وإنما يقابل كل نعمة بما تستحق من الشكر حسب ما يفهم طبعاً وإلا فليس من شكر على الواقع لأن استحقاق الحق لا نهائي. لكن الحق تعالى ذكره فتح لنا موارد لشكره مترتبة على اختلاف مستويات العباد وهي مراتب متعددة مترتبة على أصول ثلاث:
الأصل الأول: الشكر اللساني: هو إن يشكر العبد المنعم جل جلاله باللسان أي باللفظ الذي يرى فيه العبد سد لفجوة التقصير تجاه النعمة فأي لفظ يراه مناسباً للنعمة أتى به ومن مراتب هذا الأصل التحدث بنعمة المنعم بلسان الشكر البياني قال تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى : ١١] فيحدث الناس بما انعم الله عليه مع نسبتها إلى الله طبعاً فيحبب الله تعالى إلى الخلق ويقربهم إليه بالتنبيه عن طريق النعمة. وهذه المرتبة بشقيها هي أدنى مراتب الشكر.
الأصل الثاني : الشكر الفعلي: وهو الشكر الظاهر من خلال أفعال الشاكر وذلك بتفعيل نعمة الله لشكره كمن يرزقه الله تعالى فيتصدق ببعض رزقه شكراً لله أو كمن يصلي شكراً لله تعالى على عطاءه وكذا من يرزقه الله علماً فيعلمه للناس ليس لان الناس محتاجون إليه إنما بنية شكر المنعم على ما انعم. قال الإمام علي ( عليه السلام ): (( شكر المؤمن يظهر في عمله وشكر المنافق لا يتجاوز لسانه )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٥٦٠٥] وعنه ( عليه السلام ): (( شكر العالم على علمه عمله به وبذله لمستحقيه )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٦٠٦] فمن انعم الله عليه بنعمة قابلة للظهور على جوارحه وجب إظهارها على جوارحه شكراً لله أو إظهارها إلى الخلق لزم، قال تعالى: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ } [سبإ : ١٣] أي ليكن عملكم بدافع الشكر على هذه النعمة لا بدافع آخر لا لأجل نيل ثواب ولا لدفع عذاب وهذا اقل ما يقدم للمنعم شكراً على نعماءه.
واعلم أن العمل بنية الشكر من أرقى أنواع العمل لأنه خالي عن المصالح النفسية الخاصة والمطامع الفردية سواء الدنيوية أو الأخروية لذلك نرى مَن شكر الله بالفعل أي فَعَلَ الفعل لأجل أداء حق الشكر استحق الزيادة لأنه لم يطلب الزيادة فكانت عطاءً وفاقا من قبل الحق تعالى.
الأصل الثالث: الشكر القلبي ويترتب عليه ثلاث مراتب اللاحقة أعلى من السابقة في مدارج الإيمان:
المرتبة الأولى: الشكر الاعتقادي، ويتأتى بتسقيط سلسلة الأسباب بين المُنعِم والمُنعَم عليه فيرى النعمة نازلة من الله تعالى وليس لأحد فضل في ذلك غير الحق تعالى فيتيقن من كل ما يأتيه انه من الحق تعالى وليس للأسباب الإضافة أو التنقيص قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( أدنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّةٍ يتعلق القلب بها دون الله عز وجل والرضا بما أعطى، وان لا يعصيه بنعمته أو يخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب نعمته )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٦١٨]. فلا يشرك في النعمة أحداً مع الله وان كان السبب الظاهر هو إنسان أو فعل أو أي شيء إنما هي أسباب اتخذها الله سبحانه لإنغماسنا في الأسباب وتفاعلنا معها وإلا فليست هي الفاعلة على الحقيقة، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( أوحى الله إلى موسى ( عليه السلام ): يا موسى اشكرني حق شكري فقال: يا رب كيف أشكرك حق شكرك وليس من شكرٍ أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟! فقال: يا موسى شكرتني حق شكري حين عَلِمتَ إن ذلك مني )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٦٠٣]. أي حينما نسبت ذلك الفعل إلي ولم يحجبك عني السبب الظاهر من الفعل.
المرتبة الثانية: الشكر الحالي، ويتأتى بعد أن يفتح للإنسان شيء من بصيرته ويرى إحاطة النعم الإلهية عليه وتوالي المنن في كل أحواله وفي كل حركاته وسكناته، ويرى عجز اللسان عن شكرها وقصور الفعل عن أدائها وضآلة الاعتقاد في ساحتها، فتصيبه حينئذ نفحة من الشكور فيطغى عليه الشكر فيكون عندئذ هو حاله، أي يكون حاله الشكر، كمن حاله الحزن على فقد حبيب وان أكل أو شرب أو نام فهو محزون في كل أحواله وهكذا يكون الشاكر في هذه المرتبة شاكراً لله تعالى في كل أحواله وتغيراته، وبها يكون المرء في أعلى مراتب الشكر.
المرتبة الثالثة: هو العجز عن الشكر وهو غاية الشكر ومنتهاه عندها يختم الإنسان مراتب الشكر ويكون شاكرً حقاً. وتتأتى هذه المرتبة عندما يرى الإنسان بعين بصره وبصيرته انه مهما فعل فلن يستطيع أنْ يشكر الله حق شكره لتتابع أياديه وتطاول مننه وانه كلما شكر وجب أنْ يشكر لما وفّقه الله لشكره ويرى انه كلما شكره زادة العطايا ويتذوق فيض العطاء المعنوي وتتكاثر نفحات الشكر الإلهي فيتضاءل الشكر الحالي ولا يصمد أمام المنن الإلهية فيعجز الإنسان عن الشكر ويعدم الحيلة والوسيلة فلا يبقى أمامه إلا العجز عن الشكر عجزا حقيقياً فيقدّم عجزه في ساحة المقتدر، حينها فقط يكون قد كمل شكره. قال إمام الأنام الصادق عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: (( تمام الشكر اعتراف لسان السر خاضعاً لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٦٠٤].
فهذه بعض مراتب الشكر التي نطق بها لسان الحق في كتابه وأحاديث أولياءه.
واعلم إن لكل مرتبة من الشكر مرتبة من العطاء الإلهي توازيها صعوداً وتزيدها أفضالاً واقلها أن يهيئ الله عبده الشاكر لتقبل مرتبة الشكر التي تلي مرتبته يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( ما انعم الله على عبدٍ نعمة فشكرها إلا استوجب المزيد فيها قبل أن يظهر شكرها على لسانه )) [ميزان الحكمة / باب الشكر / حديث ٩٥٩٢].
الشيء الآخر، هل إن شكر العبد لربه على نعمة ما هو جزاء لتلك النعمة أي جزاء لله على نعمته؟!. حسب ما تبين إن العبد عندما يشكر ربه فإن هذا الشكر هو للعبد خالص وليس لله فيه شيء ولا ينال منه الحق تعالى لا شيء مادي ولا معنوي ولا غير ذلك إذ لا يصل إليه النفع والضر، قال تعالى: { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل : ٤٠] إذن فالحق تعالى عندما يطالبنا بالشكر لا لأنه يريد منا الجزاء كما يفعل البشر مع بعضهم إذا قدم أحدهم خدمة لأخيه طالبه بالشكر لإرضاء نفسه! كلا إنما الحق يطالبنا بالخير لأنفسنا يطالبنا بما يحقق سعادتنا ويبعدنا على عذاب الغفلة وعذاب انقطاع النعم أي إن ما ينزل الله تعالى علينا من النعم بالدنيا يريدها أن تكون كذلك نعم في الآخرة وذلك بشكرها، فأنزلها من أجل أن نتنعم بها في الآخرة لا فقط في الدنيا ونحرم منها في الآخرة، إذن هو عطاء في عطاء وهو من أعلى مراتب الكرم { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [النمل : ٤٠] أي انه لا يحتاج منكم الشكر فانه غني بذاته كريم بصفاته فكفركم لا يضره شيء وشكركم لا ينفعه شيء إنما اوجب عليكم ما يصلحكم وحرم عليكم ما يفسدكم فهل انتم شاكرون؟!!.
وكما إن الشكر يؤدي إلى زيادة النعمة كذلك فان الكفر وأعني به عدم الشكر يؤدي إلى سلب النعمة حسب قاعدة التغيير. وفلسفة ذلك إن كفران النعمة هو التمتع بها دنيوياً محضاً وعدم الالتفات إلى المنعم وشكره بأي طريقة، فتكون بذلك النعمة مبعدة لهذا الإنسان عن نعيمه الأخروي ومما التزم به الحق من تقدم الأصلح لعباده يوجب لمصلحة العبد سلب هذه النعمة منه؛ لأنها لم تؤدِ الغرض الذي نزلت من أجله باستثناء أمر واحد وهو إن كانت هناك إرادة حقيقية للضلال عندئذ يكون العبد مصداقاً لقوله: { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران : ١٤٥] أي بالإرادة الحقيقية مع التجرد التام من إرادة الضد. فيكون بذلك سلب النعمة هي من النعمة وليست من النقمة؛ لان مصلحة العبد الأخروية تدعو بلسان حالها إلى ذلك.
(فسبحان من أنعم وشكر وسبحان من قدر وغفر)