قــاعــدة العهـــد
المدرك: قوله تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }[البقرة : ٤٠].
المفهوم: قلنا أن القواعد التبادلية هي قواعد عملية بنى النظام الإلهي بقسميه العام والخاص أثراً عليها سواء حين الفعل أو حين الترك والمخالفة، ومنها قاعدة العهد والتي نص الكتاب العزيز على التبادلية فيها فمن أراد أن يفي الله تعالى بعهوده فعليه أن يفي بعهود الله. فكان وفاء العهد من قبل الإنسان مقدمة لإتمام العهد الإلهي. لكن ما هو العهد الإلهي المطالب الإنسان بالإيفاء به والذي أكد عليه الحق في أكثر من مورد وشدد على الإيفاء به وقرن الكثير من عطائه بتمام ذلك العهد؟.
نقول: إن هنالك نصوصاً عديدة تُبين أن هنالك عهداً قطعه الإنسان لربه وكذلك هنالك عهد من قِبل الله تعالى للإنسان شريطة أن يفي الإنسان بعهده، ومن تلك النصوص قوله تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس : ٦١]. فالظاهر من النص أن هنالك عهداً بعبادة الله تعالى وترك التزلف إلى الشيطان ومعرفة الصراط المستقيم. وكذلك قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد : ٢٥] فيتبين من هذه الآية أمور أخرى منها قوله (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) أي من بعد القبول والاعتراف بهذا العهد من قبل بني آدم والشيء الآخر في قوله { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } فقد كان هنالك عهد بالمواصلة، والمواصلة تحتمل وجهين.
الوجه الأول: مواصلة العباد وذوي القربى بالخير والحسنى سواء فهمنا من مواصلة ذوي القربى ذوي قربانا أو قربى الرسول ) صلى الله عليه واله وسلم ).
والوجه الثاني: المواصلة في طريق الله تعالى أي مواصلته تعالى بالعبادة والذكر وعدم قطع هذه الصلة بقطع أسبابها بل وتمتين هذه الصلة بالعمل بأسبابها دون نقصٍ. كذلك اخذ علينا عدم الفساد والإفساد في الأرض سواء بالفساد الفعلي أو بفساد النوايا قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } [الروم : ٤١] أي بالأفعال المؤدية إلى فساد سرائرهم ظهر الفساد وانْ لم يكن منهم إفساد البحر فعلياً وذلك لترابط الأنظمة. وفي مورد آخر يقول جل وتقدس: { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب : ٢٣] فيظهر جانبٌ آخر من العهد وهو التضحية في سبيل الله بالنفس، وبطريق أولى يشمل ما دون النفس، إذن ومن ضمن العهد أن يضحي الإنسان بكل عزيز في سبيل الله وتحقيق أمره لذلك أثنى الله تعالى على هؤلاء بالصدق والإيفاء. ثم في مورد آخر يبين الله تعالى أهمية هذا العهد ويتوعد من ينقض هذا العهد أسوء أنواع العذاب في الدنيا والآخرة إذ يقول جلّ من قائل : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [آل عمران : ٧٧] وهذا غاية العذاب لأنه يوصل إلى غاية البعد عن الحق تعالى فلا يكلمهم الله بالهداية ولا ينظر إليهم بالرحمة ولا يزكيهم بالتطهير ولا نصيب لهم في الآخرة ومن كان حاله هذا فهو في عذاب اليم.
فهنالك الكثير من الآيات التي تؤكد على هذا العهد وتتوعد ناقضيه بالعذاب المعجل والمؤجل.
والذي نفهمه من العهد من خلال القرآن وأهله ( عليهم السلام ) هو في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف : ١٧٤] فالظاهر من هذا النص إن الله تعالى اخذ عهداً على بني آدم جميعاً في زمان ما وفي مكان ما، لم تصرح به الآيات وان كان قد ورد عن المعصومين ( عليهم السلام ) انه حدث في عالم يسمى بعالم الذر أو عالم الميثاق، رغم ذلك فان صورته غير واضحة لكن ما في أيدنا من خلال الظواهر إن في تلك العرصة اخذ الله عهد بني آدم بأن يعبدوه وحده وان يطيعوه في أوامره وينتهوا بنواهيه كما وضح في الآيات السابقة.
ومن المفروض عقلاً انه تعالى بين لهم كل أمر تعلقت به إرادته منهم وان كان مجملاً في القرآن. ثم كان قبول بني آدم لذلك العهد وتوثيقه، وزاد الحق تعالى بنقض الحجج التي من المتوقع أن يحتج بها بنو آدم يوم القيامة على الله تعالى وهي الغفلة أي عدم التذكر وكذلك التربية أي إننا قد تربينا على ذلك فليس لنا علم بما تقول { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً } أي أخذنا الإشراك عن آبائنا ولا نعلم ما هو التوحيد ولو كان آباؤنا موحدين لكنا موحدين!. فكان هذا العهد من القوة التمكين والتوثيق بحيث لا يؤثر فيه التربية الفاسدة ولا النسيان ولا غير ذلك، لكن يبقى إشكال مهم جداً. وهو إننا حقاً لا نذكر ذلك العهد ولا نعلم من تفصيله شيئاً؟! والله تعالى يقول انتم مطالبون به ومخالفة ذلك العهد هو بإرادتكم وليس بعدم التذكر وسوء التربية، علماً إننا نرى العكس فكيف الخروج من هذا الاشكال؟.
نقول: إنَّ العهد الذي أخذه الله تعالى علينا سواء أكان لفضياً أو غير لفظي إنما الأثر الموجود منه الآن وفي كل بني آدم هي الفطرة التي أودع الله تعالى بها توحيده وكل ملازمته من الأفعال الناقضة للعهد والموفية به. وكذلك تركيز أدلة التوحيد في عقل الإنسان التي يتوصل الإنسان بها إلى التوحيد إجبارا إن سار دون انحراف إرادي وألزم الحق تعالى هذا العلم ذوات البشر فجعله من لوازم العقل. بحيث لو تجرد الإنسان من الصفات النفسية والحجب الظلمانية لأنكشف له وظهر عليه.
والإنسان يولد على الفطرة وهي التوحيد فأما أن يسبب انحرافه عن فطرته بإرادته وذلك بالميول إلى الشهوات والملذات أو يكتسب من أهل الدنيا بميوله إليهم فينقض بذلك العهد الأول، وإما أن يجاري الإنسان فطرته ويستلهم من إيحاءاتها ويسير بخطها حينئذ يتبع الطريق الحق ويوفي بعهده تجاه ربه قال تعالى: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس : ٨] لذلك لا يحتاج الإنسان إلى التذكر لكي يكون موحداً إنما بالالتزام لما في داخل الإنسان من التوحيد المودع في فطرته. وليس لأحد إجباره على عكس ما في داخله بل ليس لأي إنسان هذه السلطة إلا أن يريد هو ذلك ويميل بهوى نفسه إلى التفاعل مع آراء الآخرين سواء كان أبواه أو غيرهم. فعندئذ تسقط حجتنا بالغفلة أو التربية السيئة.
فيكون العهد الذي عاهدنا عليه الله هو التوحيد والالتزام بالأوامر الإلهية والتي ظهرت من الحيز الفطري إلى الحيز الفعلي وتمثلت بالإسلام الحنيف.
يبقى الطرف الأخر من القاعدة والذي من الظاهر انه معلوم فطرياً أي إن الله تعالى عندما اخذ عهدنا بين لنا عهده على ما اشتمل من عطائه والبعد عن عذابه قال تعالى: { وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل : ٩٦].
فبين الله تعالى انه لا يريد لنا الخسارة لان الذي نكسبه جرّاء نقض العهد هو ثمن قليل جداً لا يستحق أن ينقض العهد من أجله، إنما ثمن عهدكم اكبر من ذلك وما عند الله جزاء إيفائكم عهدكم خيرٌ لكم من هذا الثمن القليل المتمثل بمنافع دنيوية زائلة ولذات نفسية مؤقتة، بل ما عنده خير لكم من كل ما تكسبون وما تتمنون أن يكون عندكم من رغبات نفوسكم وان علت أفكاركم عقولكم وان سمت وما في خيالاتكم، وهو ما لا تدركه العقول قيمة وسعة إن كنتم تعلمون مصلحتكم وما يضركم مما ينفعكم، وما عندكم من الربح الوهمي له أمد معلوم واجل محتوم فهو نافد لا محالة , أما ما ادخره الله تعالى لكم وما يجلبه الإيفاء بعهدكم فهو عطاء ليس له نفاد مستمر باستمرار بقائه تعالى إذا يتصف بصفة الاستمرارية لانتسابه لله جل جلاله فله قابلية الدوام.