قاعدة الفرقان

قاعدة الفرقان 1

مَدرك القاعدة: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال : ٢٩].

     المفهوم: إن من القواعد الثابتة في علم الإيمان والتي بنيت عليها أسس قويمة للتصاعد في مدارج التكميل الإيماني والمعطية للمقياس الصحيح في معرفة ما يزيد في رقي المؤمن وما يؤدي إلى نزوله، هي قاعدة الفرقان والتي من المفترض أن يدركها الفرد بوسيلة التقوى إذ إن ما أُودع فيه من قابليات واستعدادات كاملة توصله حين استغلالها والإفادة منها إلى درجة العبادة المقررة في نظام التكامل الإلهي وهي درجة.

      { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ } [آل عمران : ١٨].

      وكما أسلفنا إن المقدمة الموصلة إلى نتيجة الفرقان هي التقوى والتي قيد الحق تعالى بلوغ تلك المنزلة بها.

      والتقوى: هي حفظ النفس ووقايتها من الوقوع في الأضرار، وبما أن الضرر الحقيقي للنفس هو الابتعاد عن حظوظها وأسباب بنائها المتمثل برقيها، اذاً لا بقاء للنفس على الوجهة الحقة إلا بدوام تقدمها فيما رسم لها من نظام يحفظ به وجودها وما أودع بها.

      وأعظم سبل هلاك النفس هو الإقبال على جهة الدنو المانعة من نيل كمالاتها والمؤدية إلى خلودها في عذاب الظلمة. أما الإضرار المعترضة للنفس على الجانب الدنيوي فليست بإضرار بالمعنى الحقيقي بل اغلبها ذات فائدة للنفس من قبيل الضرر الناتج من نقص الملذات الدنيوية فإنها ليست إلا أسلوباً لإستخراج مكامن النفس من حيز القوة إلى حيز الفعل.

      أما الفرقان: فهو نور ملكوتي يُفرِق به بين الحق والباطل يفيضه الله تعالى على من تمسك بحبل التقوى. قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( إن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطَهور دنس نفوسكم وجلاء عشا أبصاركم وامن فزع جأشكم وضياء سوء ظلمتكم )) [نهج البلاغة / الوصية بالتقوى ].

     فلا نزول للنور الفرقاني إلا ببلوغ المرتبة الثانية من مقام المتقين.

      التطبيق: قبل الدخول في موارد التطبيق هنالك سؤال يدعو للإجابة وهو: إن كان الإنسان قد آمن ودخل التقوى وهو اتقاء الذنوب والوقوف عند الشبهات فما حاجته إلى الفرقان؟! وهو باتقاءٍ سابقٍ فرّق بين المصالح والمفاسد واتقى المفاسد وآتى المحاسن!.

     وجوابه بملاحظة جانبين:

      الجانب الأول: يتمثل بالجانب الدنيوي، وهو التعامل الدنيوي مع الخلق فان الفرقان يبين للإنسان ما هو الأصلح له دنيوياً، أي يفرق بين المصالح والمفاسد الدنيوية فيتبين له ما ينفعه مما يضره، وغيره عاجز عن ذلك إنما يعمل غيره على حسب استحسانه العقلي ليس أكثر وما أكثر أخطائه، وهذا ما نبه عليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قوله السابق (( وجلاء عشا أبصاركم )) [نهج البلاغة / الوصية بالتقوى] أي مقياس على الجانب الدنيوي والجسماني.

     وليس للإيمان الأول أو المراتب الأولى من التقوى أن تعطي الإنسان ذلك إنما تبين القواعد الأساسية والمنطلق الأول لطرفي الأخلاقي والتصاعد الإيماني.

      الجانب الثاني: وهو الجانب الإيماني: فمن المعلوم أنَّ ظاهر الشريعة لا يعطي كل مستويات الإيمان وان كان يحوي على ذلك لكن من جهة العطاء الفعلي فليس ذلك من تكليفه إنما يعطي الأسس الصحيحة للانطلاق في عالم التكميل، وليس لغيره القابلية على ذلك. وتبقى المستويات العليا متعلقة بالمراتب الإيمانية بما تحوي كل مرتبة على فيضها وموانعها وحدودها التي حدها الحق بها وليس لها الرقي فوق ذلك. والفرقان من فيض مراتب المتقين، والذي يفرق به المتقي ليس الحلال والحرام قطعاً! فذلك أخذه من الشريعة إنما يفرّق في الأفعال العامة والأحوال الخاصة والخواطر الداخلية والأفكار العقلية، وكذلك المباحات فيفرق بين ما يتقرب به لله تعالى في فعله أو تركه.

      يكون ذلك النور الفرقاني ملازماً للمتقي في كل أفعاله فيرى به أحجار آخرته واطمار دنياه.

      فلا يتخيل امرؤ أن الذنوب والحسنات متوقفة على مستوى ما، إنما هي متصاعدة بتصاعد الإنسان وبما إن الكمال مطلق فالنقص مطلق.

     واعلم:إن للتقوى مراتباً وموارداً يترتب على أثرها مستوى الفرقان النازل ويسلب بسلبها.

       ومن أصول مراتب التقوى:

    أولاً: اتقاء العذاب: ونقصد به العذاب الإلهي سواء الدنيوي منه أو الأخروي بتجنب مسبباته من الفعل والترك المنصوص عليه بالقيد الأول.
     ثانياً: اتقاء الحرمان: وهو النظر لموجبات زوال النعيم بأفعاله فيتقي بترك المزيل، ويتصاعد الفرد بتصاعد طمعه الأخروي.
     ثالثاً: اتقاء الهجران: وهو أعلى المراتب الثلاثة ولا يفقه ذلك إلا من نال لذة الوصال فيتقي أسبابه ويتجنب آثاره ويقف على متشابهاتة، فيُعطى فرقاناً في كل أمر وموقعه من الوصال أو الهجران فيسعى نور صاحبه بين يديه.

     وأما موارد التقوى فكثيرة منها:

      أولاً: التقوى في اجتناب المحرمات وإيتاء الواجبات وهي المراتب الأولى بعد التمام.

     ثانياً: التقوى في إيتاء المستحبات وترك المكروهات على ما قدر الله تعالى عبده على ذلك وليس لها تمام.

     ثالثاً: التقوى في ترك المباحات وأعني صيرورتها إما بما يقرب إلى الحق تعالى وإيتائه وإما ما يبعد عنه واجتنابه.

    رابعاً: التقوى من ظلم النفس بالمراتب الدنيا من النعيم.

    خامساً: التقوى من الغفلات لمن فهم العبادة المطلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : ٥٦].

     سادساً: التقوى من الغرور بالعبادة.

     سابعا: التقوى من رؤية الحسنات.

     ثامناً: التقوى من الاحتجاب بالنعمة عن المنعم.

     تاسعاً: التقوى من الإشراك الخفي بكل مراتبه.

    عاشرا: التقوى من الاشتغال بغير الله ( وأستغفرك من كل لذة بغير ذكرك) [ الصحيفة السجادية / مناجاة الذاكرين ].

     حادي عشر: التقوى من حجب النور.

     وهناك موارد عديدة للتقوى على أساسها تكون منزلة المتقين كذلك لكل منزلة مستوى من النور الفرقاني.

       وإما الفيض الفرقاني فينزل على ثلاث منازل:

     أولا: الفرقان النفسي: ويمثل التفريق بين الحق النفسي الباطل من أوامرها ورغباتها التي توحيها إلى صاحبها والنابعة إما من الاحتياج الحقيقي والتكميل النفسي التصاعدي وإما من رغبات الميول إلى جهة الملذات الدنيوية فيفرق بنور الفرقان بين ما يساميها وما يسافلها حتى وان جاءت رغباتها بصورة شرعية أو عقلية فكثيراً ما تُلبس النفس رغباتها ثياب العقل والشرع، فصاحب هذا المستوى قادر على تمييز ذلك. كذلك يفرّق صاحب هذا المستوى بين النفوس الصالحة والنفوس الفاسدة، فلا يحتاج إلى التعامل معها والاستنتاج والتتبع العقلي إنما بما يملي عليه فرقانه.

      ثانياً: الفرقان العقلي: والمستفاد منه التفريق بين الأفكار الحقة والأفكار الباطلة سواء على الصعيد الدنيوي المتمثل بالأفكار النافعة أو التامة في تحقيق ما يبتغي المرء من أمر دنياه، أو على صعيد الاعتقاد من المعتقدات الفكرية الناقصة والتي تؤدي إلى انحراف اعتقادي والأفكار التامة، فيفرق المتقي بين ما يأتي من جهة العقل والعمل به أو تركه.

      ثالثاً: الفرقان القلبي: ويفرق به المتقي بين الواردات القلبية من الخواطر النازلة والصاعدة ومعرفة مواطن التطهير القلبي وأسباب قطع العلائق القلبية والتفريق بين المؤثرات القلبية سواء الداخلية أو الخارجية.

      والفرقان يفتح لصاحبه من الأمور ما تعجز عنه المستويات السابقة له، لذلك نرى من المؤمن الذي لم يبلغ رتبة المتقين التخبط في كثير مما يعرض له فيسدل حجاب الغفلة على كل ما لا يجد إزاءه فيصلاً مما يؤدي إلى اقتصاره على مرتبة الإيمان.

      واعلم إن أعلى مرتبة في التقوى قد حازها الرسول ) صلى الله عليه واله وسلم ) ومن بعده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والتي كانت داعية لاستحقاقه أن يكون الفاروق الأكبر ومن أدنى موارد فرقانه ( عليه السلام ) انه كان يفرق بين النوايا قبل نزولها إلى حيز الأفعال.

 

This Post Has 6 Comments

  1. محمد

    دمتم سماحة أبونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم

  2. محمد

    قمة النقاء والعطاء سماحة أبونا الحبيب دام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم

  3. غير معروف

    دام الله تعالى وجودك أبانا الحبيب

اترك تعليقاً