كلمة سماحة الشيخ منتظر الخفاجي بمناسبة اليوم الوطني العراقي

ونحن نعيش اليوم الوطني العراقي، بودّي أن أُنبّه إلى أمرٍ مهمّ غاية الأهميّة، ألا وهو الوطنية. وأعني بها ذلك الرابط العميق الذي يشدّ الفرد إلى وطنه، والذي يتولّد من الانتماء، وينبثق عنه شعور قوي في داخله، يدفعه إلى أن يبذل كلَّ ما يراه في مصلحة وطنه، ولو اقتضى ذلك أن يضحّي بالغالي والنفيس لتغذية ذلك الشعور.
لكن ـ وللأسف ـ منذ أكثر من ثلاثين عامًا بدأ ذلك الشعور يضمُر ويذبل، حتى بلغ حدَّ الصمت التام، وخسر معركته أمام المصالح الفردية الخاصة، فانتَصرت المصالحُ الخاصةُ انتصارًا ساحقًا، وغدت الوطنية لفظةً جوفاء فارقتها الروح، وأضحت كلمةً دعائيةً يتذرّع بها كلُّ مَن أراد التسلّط على العباد.
وما أحوجنا اليوم إلى بثّ الروح في هذا المبدأ السامي، لا من خلال الخُطب أو الدروس؛ فالانتماء الوطني لا يُدرَّس، وإنّما يُعاش ويُتذوَّق. فهو كامن في القلوب، لكنه تراكمت عليه طبقاتٌ من غبار المصالح، والمفاهيم السطحية، والمنافع المؤقّتة. لذلك تراه يلوح أحيانًا في مواقف معيّنة، ثم سرعان ما يخبو ويختفي.
وعلى العقلاء أن يُروا الفردَ صورتَه الوطنية، لا أن يدرّسوه إياها. فعندها يقف الإنسان على أهمية وطنه، ويُدرك في أعماقه ما لوطنه من أبعاد عطائية، ويرى موقعه الصحيح بين أولويات اهتماماته. وحين يجرّب الغربة عن وطنه واقعًا أو وجدانًا، يكتشف من جديد صوت الانتماء العميق وشعورَه المتأصّل.
فالوطن ليس الهواءَ الملوّث بالتراب، ولا الكهرباء كثيرة الانقطاع، ولا هو ذلك الموظّف المتهاون في أداء وظيفته؛ إنّما هو المكوّن الأكبر لوجودك، هو الذي دخل في تركيب جسدك، هو طفولتُك، هو صديقُك الذي كنتَ تلعب معه، هو الغريبُ الذي يتوقّف ليساعدك إذا تعطّلت سيارتك، هو ذلك الشخص الذي ينصحك بما ينفعك دون أن تطلب منه.
الوطن مجموعة أشياء اجتمعت فكوّنت ذلك الكيان الذي ننتمي إليه.
وكلّ كائنٍ مُعرّض للإصابة، وكلّ إصابة قابلة للشفاء، فليس من الإنصاف أن نحبّ وطننا حين يمنحنا، ونتخلّى عنه حين يقلّ عطاؤه أو ينقطع. لقد أعطانا وطننا كلّ ما عنده، وما منع عنّا شيئًا، والعدل أن نُعطيه حين يحتاج إلينا.
إنّ انتقاد الوطن لا يؤدّي إلى تغييره، بل الواجب أن نعمل لإصلاح ما نجد فيه من نواقص وأخطاء، لا أن نهجره ونذمّه ونُعلي من شأن الأوطان الأخرى؛ فقد أعطانا هذا الوطن أكثر مما أعطت تلك البلدان التي نمتدحها.
إنّ الجراح التي يعاني منها الوطن ليست من صنيع أعدائه وحدهم، بل إنّ لنا نحن -أبناءه- نصيبًا كبيرًا فيها.
نسأل الله تعالى أن يرفع شأن العراق، ويباركه حتى يبلغ المنزلة التي تليق به.
منتظر الخفاجي
شارك هذا الموضوع:
- انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة) فيس بوك
- انقر للمشاركة على Telegram (فتح في نافذة جديدة) Telegram
- انقر للمشاركة على WhatsApp (فتح في نافذة جديدة) WhatsApp
- النقر للمشاركة على X (فتح في نافذة جديدة) X
- اضغط للمشاركة على Pinterest (فتح في نافذة جديدة) Pinterest
- اضغط للطباعة (فتح في نافذة جديدة) طباعة