لَطائفُ عَلوية
أوردَ الشيخُ الصدوقُ -رحمهُ اللهُ تعالى- في كتابه الخِصال حديثاً رواه عن الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) بسندٍ معتبر، أنَّ رَجُلًا قامَ إلى أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ، بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ قال: «بِفَسْخِ العَزْمِ -العزائم-، ونَقْضِ الهَمِّ -الهمم-، لَمّا أنْ هَمَمْتُ فحالَ بَيْني وَبَيْنَ هَمِّي، وعَزَمْتُ فخالَفَ القَضاءُ عَزْمي، فَعَلِمْتُ أنَّ المُدبِّرَ غَيْري…».
حَوَتْ هذه العِبارةُ من القَولِ على عدّةِ لَطائف ينبغي أن نُسَلِّطَ الضوءَ عليها، ونأخذَ من عَطائها ما أمكنَ أخْذُه، ونَجعلَ منها خطواتٍ عمليةً نُثْري بها مَخزونَنا الإيماني. ومِن هذه اللطائف:
اللَّطيفةُ الأولى: الظّاهِرُ أنَّ السؤالَ كانَ في جَمْعٍ من الناس، ولا نَعْلَمُ مَن هو السائل، لكن من خلالِ فَحْوَى السؤال نَفْهَمُ أنَّ هذا السائلَ كانَ على مستوى عالٍ من العقلِ والإيمان. فقال: يا أميرَ المؤمنين، بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ واللَّطيفةُ هنا أنَّه قال: رَبَّكَ، ولم يَقُل: رَبَّنا أو الله أو غيرَها من العبارات. ولفظةُ رَبَّكَ تُوحي إلى أنَّ رَبَّ عليِّ بنِ أبي طالبٍ غيرُ رَبِّ البَقية! وليسَ المقصودُ تَعَدُّدَ الأربابِ قطعاً، وإنَّما كلُّ فردٍ مؤمنٍ يَحملُ صورةً ذِهنيّةً عن اللهِ تعالى. وهذه الصورةُ الذِّهنيّة ـ أو قُل الاعتقادية ـ مُتكوّنةٌ من مجموعِ عَقائدِ ومَعارفِ الفردِ التي كوَّنَها عن الله تعالى. فـرَبُّ الفردِ مُحدَّدٌ بالنسبةِ للفردِ بحدودِ مَعرِفتهِ به، وتكونُ بتوسّعٍ مستمرٍّ وفقَ ما يكتسِبُ الفردُ من معارفَ عن ربِّه. حينَها تكونُ الصورةُ الذِّهنيةُ للهِ سبحانهُ في عقليةِ وعقيدةِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ تختلفُ عن الصورةِ الذِّهنيّةِ للهِ تعالى عند غيرِه. والظّاهِرُ من سؤالِ السائل أنَّه ـ أي السائل ـ يعتقد، من خلالِ ما لمَسَهُ وعايشَهُ، أنَّ اللهَ في نظرِ عليٍّ (عليه السلام) يختلفُ عن صورةِ اللهِ تعالى في نظرِنا؛ لهذا قال: رَبَّكَ، أي اللهُ عزّ وجلّ الذي تَعرِفُهُ أنتَ بما لديكَ من معارفَ عنه ومعتقداتٍ تَعتقِدُها فيه، أوصلَتكَ إلى ما وصلتَ إليه.
اللَّطيفةُ الثانية: هي إثباتُ وَحْدةِ الرَّب، وذلكَ بما جاءَ من جوابِ عليٍّ (عليه السلام) حينما أجاب: عَرَفْتُ اللهَ، ولم يَقُل: عَرَفْتُ رَبِّي. فيُبَيِّنُ للسائل أنَّ الرَّبَّ واحِدٌ، وهو اللهُ تعالى، وليسَ هناكَ رَبِّي ورَبُّكَ، مهما اختلفت الصور الذهنية عنه.
اللَّطيفةُ الثالثة: إنَّ جوابَ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) للسائل لم يَكُن على سبيلِ الموعظةِ، أو العلمِ المُجرَّدِ، أو المعرفةِ العقليةِ النظرية، إنَّما أعطاه إجابةً عمليةً فِعليةً من خلالِ ما يَحدُثُ مع كلِّ إنسانٍ يومياً. كلُّ ما في الأمرِ أنَّ عليّاً (عليه السلام) كان مُلتفِتاً لتلكَ الأحداث، ونحنُ غافلونَ عنها. وفي هذه الإجابةِ تَنبيهٌ للسائلِ والمستمعينَ ولنا نحن، إلى أنَّ اللهَ تعالى يتعامَلُ معكَ يومياً، فعليكَ الانتباهُ لتعامُلاته. فما تُواجِهُهُ من إخفاقاتٍ فإنَّ للهِ تعالى اليدَ الطُّولى في ذلك.
فأوضَحَ من خلالِ حديثِه أنَّ الإيمانَ باللهِ، والاعتقادَ برُبوبيَّته وإلوهيَّتِه، وفَعّاليةَ صِفاتِه، هو عن طريقِ حياتِكَ العمليةِ وما تراهُ من الفَعّاليةِ الإلهيّةِ في جُزئيّات حياتِك، وليسَ فقط أنْ تَستحصِلَ مفرداتِ عَقائدِكَ وإيمانِكَ عن طريقِ التعاليمِ والنُّصوص وما تَرَكَهُ لكَ السابقون. فاللهُ تعالى معكَ كما كانَ مع السابقين، وبإمكانِكَ أن تُطوِّرَ عَقيدتَكَ، وتزيدَ إيمانَكَ، وتَرفعَ درجةَ يقينِكَ عن طريقِ رُؤيةِ مُفرداتِ حياتِكَ. وهذا بيانٌ لطريقٍ قد لا يَعلَمُه الكثيرون.
اللَّطيفةُ الرابعة: هو كشفُ الإمامِ لأحدِ الأبوابِ التي ارتقى من خلالها بدرجاتِ إيمانِه بالله تعالى، فَعندما يقول: وعَزَمْتُ فخالَفَ القَضاءُ عَزْمي، فهو يتحدَّثُ عن نَفْسِه وعن طَريقَتِه التي سَلَكَها في بُلوغِ إحدى درجاتِ اليقين، لا أنَّه سَمِعَ حكمةً من أحدِ الحُكماء فطبَّقها فازدادَ إيماناً أو يقيناً، وإنَّما التَفَتَ إلى حَدَثٍ حَصَلَ له في حياتِه، واكتشفَ منه أنَّ اللهَ تعالى هو المُدبِّر.
لهذا قال: عَزَمْتُ ـ وَهَمَمْتُ، فهو يتحدَّثُ عن أفعالِه هو، والتي حصَّلَ منها هذه المعرفةَ المُستلزِمةَ لدرجةٍ من درجاتِ اليقين. وهذا يدلُّنا على أنَّ ما وصلَ إليه أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) من الكمالاتِ ومقاماتِ القُرب، لم تَكُن على سبيلِ الهِبةِ الإلهية، وإنَّما اكتَسَبَها وفقَ نظامِ الاكتساب.
والحمدُ للهِ وحدَه.
مُنتظر الخفاجي
٢٦ – ٨ – ٢٠٢٥

