الباب الحادي والعشرون
مصلحة وجود الكافر من زاوية عرفانية
إن لكل موجود عدة مداخل لمعرفته ، ولكل مدخل جهة وحدّ ، وربما اختلفت نتيجة مدخلٍ عن آخر ، وليس يعني تكثر الموجود وإنما تعدد مراتبه ، هذا إن كان مدخل المعرفة منه . وهنالك أبواب لمعرفة الموجود لكنها خارجة عنه ، من قبيل معرفة الشيء بضده ، وربما أعطت المعرفة به من خارجه صورة أوضح من المعرفة من خلاله، وهذا يوصلنا إلى شيء وهو أن البعيد أحيانا يكون أقرب من القريب على الرغم من أن البعد بين الضدين أو النقيضين بعد شاسع على مستوى الظاهر.
ويستفاد من ذلك أن البُعدية والقُربية المادية ليست مطلقة ، إنما حيزها المادة ، أما إذا تجاوزنا القيد المادي فلا ندري من الأقرب ومن الأبعد ؟ وحتى إذا تقدمنا خطوة بعد كسر القيد المادي فسنرى أن من الموجودات المعنوية ما تكون معرفته بالأبعد أوضح وأجلى من المعرفة بالأقرب ، فلا يبقى مقياس حقيقي للقربية والبعدية ، بل ربما تسقط الأهمية ، إلا بمن وصف نفسه بالقرب على الحقيقة والذي لا يتغير واقع قربه في كل العوالم ، والثابت قربه من ثلاث جهات ، جهة المنبع أي الصدور منه ، وجهة المصب والذي هو يجمع الكل في الكمال الكلي ، وجهة الملازمة بالمعية حيث : { هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد : ٤].
والذي أبتغي بيانه هو أن لكل الموجودات فوائد متبادلة متحققة بالقرب أو البعد سواء أكانت تلك الفوائد ظاهرة أم باطنة أم في واقعها ، فلا يخلو شيء من الفائدة البتة ، ولو رأينا أشياء تفتقر إلى الفائدة في عشر مراتب فاعلم أن فائدتها في مستوى أعلى من نظرنا بحيث لا نستطيع الصعود أو أدنى بحيث لا نستطيع النزول ، هذا إن كانت فائدتها في غيرها ، أما فائدتها في نفسها فأول مراتب تلك الفوائد هي وجودها.
وبعض الأشياء تُفقر ذاتها للفائدة أي بإرادتها , فلا مناص من أن تتحقق فائدتها في غيرها , إذ لا بـد لكـل موجود من فائدة.
ولو تقدم الإنسان خطوة ونظر بعين الحق أي اطّلع على الحكمة ، لرأى ليس فقط الموجودات بل لكل فعل ، وعلى اختلاف نوعيات ومستويات الفعلية وسواء كانت صادرة من العالي أو الداني ، فائدة سواء كان عن قصد في الفعل أو عن غير قصد. والذي هو آتٍ من الترابط الذي أقره الحق جلّ شأنه بين المشيئة الإنسانية والمشيئة الإلهية { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [التكوير : ٢٩] ولا يهمنا الآن أن كان الأساس للإرادة الإنسانية أو الإرادة الإلهية . إنما الواضح من ذلك هو أن مشيئة الحق مرتبطة ارتباطاً كلياً بمشيئة الإنسان في عموم الأشياء ، إذ إطلاق الآية. وحقيقة الارتباط هنا ليس بالجبر وإنما من جهات أخرى ، منها الارتباط من باب الأصل وهي جهة امتداد المشيئة الإنسانية من المشيئة الإلهية ، والجهة الثانية هو ما نسميه بالارتباط التحميلي ، وحاصله تحميل الفعل الإنساني بمشيئته الإنسانية مشيئةً إلهية توافقه بالفعلية وتفارقه في الغاية أي اجتماع مشيئتين على فعل واحد ، فأنت تشاء من إشعالك للنار التدفئة مثلا ، والله يشاء من إشعالك للنار أن يوازن نسبة الغازات مثلا ، فاجتمعت مشيئتان على فعل واحد. وربما تخلفت غايتك عن مشيئتك أي تشعل النار ولكن لا تتدفأ لأي مانع كان ، أما غاية الله فلا تتخلف عن مشيئته.
ومن هنا قلنا ليس ثمة فعل إلا وله فائدة مهما كان ذلك الفعل.
وقـد نـرى إن اكـبر الموجـودات تحققـاً وأكـثرها ضرراً في الخارج هو الكافر ، حيث وجوده وضرره متحقق في الخارج ، وهو خاضع للمشيئة الإلهية لشموليتها. والكـافر فـي الظـاهر هو من أنكر الدين ، أو أصلاً من أصوله ، أما في الباطن , فهو كل من احتجب عن معرفة الحق ، إذ عند معرفـة الحق يكون التوحيد ، وهو التوحيد الحقيقي ، ويكون بالشهود حيث تقره كل الحواس ، فمن احتجب عن ذلك اعتبر كافرا.
فالكـافر في كل المستويات إرادته متعلقة بإرادة الحق من حيث الأصـل لا مـن حـيث الفعل , فهو في دائرة الكمال ، حيث كمالها بطرفيها ، وهما الكمالان.
أي إن وجوده بعلم الحق وإرادته وقوته وحياته , والوجود هو كذلك! { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل : ٩٣] فوجود الكافر مع علم الحق به لابد له من فائدة سواء في الحاضر الذي فيه الكافر أو في المشيئة المستقبلية عند كونه موحداً . وأيضاً عطاء الحق للكافر لا يخلو من فائـدة إذ يقول الحق جلّ جلاله : { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء : ٢٠] وإلا لكان فعله عبثاً تعالى عن ذلك.
ونستطيع أن نتكلم عن بعض فوائده وعلى المستوى الأول منها فقط، فمن ذلك :
أولاً : إن هناك بعض الأفعال في دائرة الكمال والتي لها فائدتها للنظام العام ، لا يؤديها إلا الكافر لتناسبها ومستواه ، وأغلبها في الكمال التسافلي.
ثانياً : في وجود الكافر تمحيصٌ للمؤمن ، وذلك بما يواجهه المؤمن من الظلم والضغط من جهة التخالف بينهما والذي يؤدي بدوره إلى استخراج المكامن النفسية للمؤمن . لأن طبيعة الضغط يحتاج إلى تحمل فيكون داعية لاستخراج التحمل من باطن النفس أو الإرادة أو غيرها بما يناسب نوع الضغط وللكافر اليد الطولى في هذا الجانب ، أضف إلى ذلك أنه لا يقتصر على الضغط النفسي بل يتعداه إلى الضغط العقلي عن طريق ما تطرح من أفكار ومعتقدات تخالف ما لدى المؤمن والتي تكوّن حافزا وسبباً لتطوير وتكامل العقلي الإيماني، وكذلك تولد مستوى جديد من الاعتقاد واليقين الذي يقوي التمسك بما لديه من معتقدات.
ثالثاً : إن معرفة الحق تعتمد في بعض مستوياتها على معرفة الباطل من حيث الفصل الدقيق والقياس عليها.
رابعاً : إن معرفة النفس في مستوياتها المتدنية وإدراك أضرارها متعذرة على من كان في الخط التصاعدي ، إنما يكتسبها من خلال رؤية الكافر بما أنه يمثل أدنى مستويات النفس.
خامساً : يرى الإنسان من خلال الكافر ـ سواء الكافر الظاهري أو الكافر الباطني ـ الأخطاء وعواقبها والتي من المفترض أن تمنعه من الوقوع فيها ، أي لولا الكافر لضعف المانع من دخول الأخطاء لأن الكلام أضعف من الرؤية.
سادساً : إن قيام الأمة الواحدة كما في الآية : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [المائدة : ٤٨] على المستوى الظاهري التشريعي لا يقوّم دائرة الكمـال ، إنما قيام الأمة الواحدة على المستوى الحقيقي هو المراد . فوجود ما يخالف أمة التشريع هو من مراتب تكميل دائرة الكمال.
واعلم أن الكافر ليس كافراً بكل جوانبه إنما الجانب النفسي منه هو الكافر أما الجوانب الأخر منه فليست بكافرة . فيكون قطع ذكر الحق من قبل الكافر هو قطع النفس عن الذكر فقط ، واعني به الذكر الخاص. أما الذكر العام فليس كذلك.
وللكفر نظـام خـاص به , وله مستويات عديدة حيث أن الكافر ليس بخارج عن النظام. نعـم يكـون خـارجاً مـن النظام الظاهري أو الباطني ، ولكنه ليس بخارج من النظامين الرئيسين وهما:
الأول : هو نظام الوجود والذي يترتب عليه ما للكافر من منع وعطاء وبلاء وجزاء وغيرها من الأسس العامة للنظام. وهو شامل للكل لا يميز بين كافر وغيره.
الثـاني : هـو النظـام الخاص بالكافر ، وهو نظام إجباري يعقب إرادة الكافر ويتلازم معها ، فهو بالإرادة غـير المباشـرة. وعلى حسب نظام العواقب ، فسيكون الفعل بإرادة الإنسان الفاعل ، لكن بين الفعل وعاقبه تلازم ، أما عاقب الفعل فيراه الانسان ليس بإرادته، نعم هـو كـذلك بالمباشـرة ولكنـه غـير ذلــك في الواقع. وهـو عـلى بصـيرة من ذلك حـتى لو كان عُمِيَ عنه ، فمعرفته مباحة.
فبهذا تكون إرادة الفعل هي إرادة لكل الأمور المترتبة عليه وإرادة للنظام الموجود فيه ذلك الفعل. ومرة يكون عاقب الفعل من سنخه ، ومرة من سنخ آخر ، لترابط العوالم ، فأحياناً يكون عاقب الفعل المادي معنوياً أو عاقب المعنوي ماديا وليس أن يكون من عين سنخه.
فيكـون الكـافر ليس بخارج عن النظام الإلهي. وليس في الكافر أي ضرر على النظام ، وليس وجوده بخارقٍ للنظام ، إنما الضرر على كماله الخاص ، فليس لـه ضـررٌ عـلى كمـال غيره ، إلا بإرادة ذلك الغير ، فيأخذ كل كـافر اسـتحقاقه من الدنيا من منع وعطاء على حسب نظامه الذي اسـتحقه ، وكذلك استحقاقه الأخروي.
ولكل مستوى من مستويات الكفـر نظام خاص بـه ، ويوازي مستوى من مستويات التوحيد , فيسـتطاع التحوّل إلى طـريق التوحـيد مـا دام التوازي موجوداً بين خط الكفر وخط التوحيد والتوازي موجود إلى نهاية مراتب الكفر. وعـلى قدر عمقه في الكفر يستحق توحيداً بسيطاً.
وهناك طريق آخر للتحول من الكفر إلى التوحيد ، وهو الرجوع التجريدي بنفس الطريق ، بما إن الأصل واحد ، إنما الانحراف هو السـبب فـي ذلـك ، فيكون الوصول إلى المنبع الحـقيقي ، ومن ثمة تكون انطلاقة جديدة. وهذا الطريق أصعب من الأول ، وان كـان في الـواقع إن هنـالك وحـدة في كـل الجزئيــات المعنوية والمادية للطريقين ، ولكن الأمر نسبي.
أما إذا ترسخت الطبـائع والصفـات الظلمانيـة فـي النفس ، حينئذ يصعب إزالتها في النظام الذي هو فيه ، فيحتاج إلى نظام يختلف عن ذلك النظام ، وهذا لا يتحقق في عالم واحد.
ويتفـاوت الكفـار بدرجـات كفـرهم ، وان كان ظاهر الكفر واحداً وهو الإنكار أو الاحتجـاب ، ولكـن تتحـكم بعض الأمور بعمق هذا الاحتجـاب ، فمـن الكافرين من يغير خطه بأقل رادع ، ومنهم من هـو أعلى مـن ذلك ، وهذا التفاوت يعود إلى عدة أمور أهمها ثلاثة وهي:
أولاً : قـوة الصفات النفسية وعمق سيطرتها ، فكلما كانت الصفات النفسـية الظلمانيـة ظاهرة ومسيطرة ، كان الكافر اشدَّ كفراً، فمثلاً إذا تـلازم الكفـر مـع رذيلة الحقد كان الكافر اشدَّ بُعداً عن التوحيد والعكس يكون اقرب.
ثانيـاً : تـأثير العـوالم السـابقة ، فبعـض الكـافرين حـملوا اسـتعدادات للكفـر من عوالم أخرى ، وسببه ضعف اليقين في تلك العوالم ، والاستعدادات طبيعة كمالها هو نزولها لأرض الواقع ، حيث تتحقق الفعلية المعنوية أو المادية ، فإن الكافر يود بيان كفره لغـيره. وهذا أحد كمـالات الكفر ، فتتولد لديه استعدادات أخرى لمستويات وجوانب من الكفر وهذا يتضح بعد نزول الاستعداد الأول للواقع وتحققه بالفعل.
ثالثـاً : الاكتسـاب. بما أن من طبيعة النفس الاتصال فأحياناً تتصل بنفوس ذات عمق بالكفر ومن خلال نظام التجاذب يكون الاكتساب النفسي الفعلي أو الصفـاتي أو الإسـتعدادي ، فيكتسب من المخالطة مع وجود الإرادة طبعاً لأي جـانب كـان ، فيكـون اكتساب بعض الأفعال والصفات ، أو دخول جوانب ذات علاقة بهذه المستويات. والأكبر هـو الاكتسـاب ألاستعدادي ، حيث بالقرب ، أي لو تقربت النفس من أختها , وان كان قرباً ظاهرياً دون أي علاقة معنوية ، إذ أن تأثير النفوس موجود ، فإن ذلك يوصل لاكتساب استعداد لدخول مجـالات في الكفر ، فيكـون مـن ذلـك تفـاوت فـي مراتب الكفر الواحـد. ويسـتمر الكـافر في ذلك حتى يصل إلى نهاية الكفر ، حيث انه متناهي.
والكفر هو المستوى الأول للنفس والذي هو أدنى مستوياتها ، حيث ترى النفس فيه استقلاليتها وعدم ارتباطها بالجهة العليا. وليس هنالك مستوى يسبق هذا المستوى تسافلياً ، نعم هنالك مراتب داخل هذا المستوى. إذن يجب أن يكون المستوى الآخر للنفس أعلى من الأول ضرورة ، لعدم وجود مستوى يتسافل إليه ، وبما أن أي نزول حده الكفر يكون الصعود تلقائياً ، والصعود على عكس الكفر إذ أنه مطلق وليس له حدّ يتوقف عنده.
ومن السلسـلة الكمالية للكفر مرحلتان مهمتان وهما مرحلة الإشراك ومرحلة النفاق , إذ هي مراحل أولية واستعدادية أعني أولية واستعدادية للكفـر.
فالمشـرك هـو الـذي يشـرك بفعـل الحق أو صفته أو ذاته أو غيرها من الجزئيات المتضمنة ذلك ، فمن توكل على إنسان مع اتكالـه على الحق فقد أشرك في التوكل ، وبطبعه يحجب عن حقيقة التـوكل ، أو اعتقـد باسـتقلالية الحول والقوة ، ولا أعني الاستقلالية الخالصـة لان الاسـتقلالية الخالصة كفر ، ولكن مع نسبتها للحق ، دون اليقين المطلوب فهو من الشرك. ويتكامل في مقام الإشراك حـتى يصل إلى كماله ثم ينتقل إلى مقام الكفر ، حـيث نهاية الإشراك بداية الكفر.
والإشراك أقل ضرراً من الكفر ، حيث وجـود بـذرة الاعتقـاد بالحق أو تأثيره , وهذا كفيل بأن يشفع للإنسان ، وينقله إلى التوحيد الساذج أو الوهمي ، مع وجود الإرادة.
أما النفـاق فهـو أعلى مـن الإشراك , وكـذلك أعلى من الكفر في الظـاهر ( أعني أعلى منه تسافلياً ) أما في مسـتوى من مسـتويات الباطن فيكون اقل مـن الكفـر ، حـيث أن الكفـر هو إنكار قطعي ، أي توافق الظاهر والباطن على الإنكار ، أما النفاق فهو أن تعقـد النفس فـي باطنهـا عـلى الإنكار ، ولكـن فـي ظاهرها التوحيد.
فعـدم اتفـاق الظـاهر مـع البـاطن يـدل عــلى وجــود شــيء من الاستعداد في النفس , حيث القابلية الظاهرية عـلى إقامـة التوحـيد تـدل عـلى وجـود استعداد للتوحيد.
أما الكـافر فإن قول لا اله إلا الله لفظاً أثقل عليه من الجبال , على عكس ما نراه عند المنافق , فإن للمنافق قابلية على أكثر مـن ذلـك ، وهو فتح باب للعقل إن أراد الدخول في هذا المدخل. أما الكـافر فقد أغلق كل الأبواب لدخول التوحيد.
واعلم أن جميع هذه العوالم والمستويات والأنظمة تصب لصالح النظام العام.
( وسبحان من تنزه عن العبث )
دمتم سماحة ابونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم
ادام الله تعالى وجودكم
السلام على الحق المبين ابانا الحبيب ورحمة الله وبركاته.
ايدكم الله تعالى وسدد خطاكم