الباب العاشر
مقام التوكــــل
إن المريد للكمال يدخل بعض المقامات في طريقه التكاملي ، والكائنة في السفر الأول لان السفر الثاني لا يحوي إلا على التوحيد والذي ببلوغه تسقط كل المقامات . واحتياج المريد لدخول هذه المقامات ، لما تفيضه من الفيوضات الكمالية الداعية للتجريد والجاذبة لمقام التوحيد . ونستطيع أن نبين بعضها :
أولها : بناء علاقة نورية مع الحق تعالى مؤسسة على أساس ذوقي لا عقلي.
ثانيها : مَحق النظام ألسببي بعدم الاعتماد أو الالتفات إليه بالرجوع الجزئي إلى مسبب الأسباب ، فهي مدارج قربوية نورانية أي درجات في حجب النور.
ثالثها : بهذه المقامات يتحقق الانتقال من برزخ الدنيا والمصنّف عرفانياً من البرازخ الوسطى إلى البرازخ العليا . لأن هذه المقامات ليست اعتقادات مبنية على أفعال معينة ، إنما هي مواطن إقامة حقيقية في عوالم أخرى معنوية . فعندما يبلغ المريد أحد هذه البرازخ بالإقامة في أحد مقاماتها سيكون تعامله منظم على أساس ذلك العالم فيختلف عن أسلوب تعامل أهل البرازخ الوسطى ، لذلك نرى من أهل الدنيا استنكاراً لأفعال المتوكلين والمسلّمين أو الزاهدين مثلاً لأنهم يرونها تنافي النظام الدنيوي المبتني على الاستقلالية واثبات الذات.
فدخول هذه المقامات هو تقرب إلى الكمال الأعلى وتجرد وبُعدٌ عن العوالم السفلى وعوالقها ، وهذا التنقل هو تنقل حقيقي وليس اعتباري.
ومن يبلغ هذه البرازخ يرى الدنيا على حقيقتها لخروجه منها.
وبما أن هذه المقامات هي محطات تنقل في مراتب الكمال كان لابد من دخولها ، وإلا فليس من طفرة في الكمال . نعم هنالك تفاوت في مدة البقاء في المقام.
رابعها : معرفة الصفات الإلهية بالمعرفة الاستقلالية من خلال التعامل ألمقامي.
خامسها : اكتساب المعارف التي توصل في كمالها إلى المعرفة الحقة.
سادسها : التزود بالاستعداد المؤهل لتتميم المسير.
سابعها : من عطاء هذه المقامات ، التطهير المستفاد من طهارة المقام والذي يكون غالباً من الإشراك ألأفعالي والصفاتي.
هذا وإن هناك من الفوائد ما تعتبر من أسرار الباطن والتي يجب أن يصلها الفرد بنفسه فلا تأخذ من بطون الكتب وإنما من بواطن القلوب.
أما حقيقة المقام , فهو رجوع جزئي إلى البداية الأولى بعد الاكتساب الكمالي المؤدي إلى الوصول للحقيقة ، وهذا الاكتساب يكون من الحق بعد المعرفة ، واعني به ما دون الذات الاحدية.
أما بالنسبة لدخول أي مقام من هذه المقامات فهو يعتمد على عدة أمور أهمها :
أولا : الإخلاص في النية ، ويجب أن يكون هذا الإخلاص كاملا فلو أن الإنسان ضم لنيته شيئاً آخر فسوف يحجبه عن دخول المقام , أو يدخل المقام دخولاً ناقصاً مما يؤدي في المستقبل إلى النقص الأكبر، والنقص في المراحل المتأخرة أصعب علاجا منه في المراحل المتقدمة.
ثانيا : دخول المقام يعتمد على إتمام المرحلة الأولى أي التي سبقته ، لأن المرحلة السابقة هي استعداد للمرحلة اللاحقة ومؤهلة إليها ، وقد رأينا بعض أصحاب الباطن ممن حُجب عن مقامات معينة لعدم المعايشة الحقيقية للمقام السابق . وبالتالي لإتمام المقام واستحقاق ما يليه وليس من المقدور دخول كل المقامات باستعدادٍ واحد فلربما يكون الاستعداد في مقام ما على عكس الاستعداد في المقام السابق.
وكذا أللبث في المقام يكون على قدر الاستعداد ، فمنهم مَن يتجاوز المقام بطرفة عين (ولا أبالغ) ، ومنهم من يلبث فيه عشرات السنين، وليس المُعّول عليه في الكمال من دخول المقام هو البقاء فيه أكثر مدة ممكنة أو العكس , إنما المطلوب هو أخذ الفائدة الكاملة بأسرع وقت ممكن والخروج منه.
والبقاء في مقام واحد ، أو المكث الطويل فيه ، واعني بالطويل الأكثر من استحقاق المقام ، هو عين التوقف . وهو بإرادة الإنسان وليس بغير إرادته ، نعم أحياناً لا يكون بالإرادة الفعلية المعروفة أي أنه يريد البقاء أو الالتفات الذهني لذلك بل بإرادةٍ استعدادية باطنية دقية يُحجَب أحياناً هو عن رؤيتها بالرؤيا المعنوية ( لكن لا تخفى على الشيخ ) ، وليست المقامات فقط ، بل حتى في الظاهر فان الإنسان يريد أشياء بإرادة استعدادية فعند حصولها يحسبها خارجة عن إرادته ويحسبها مفروضة عليه ! وهذا ربما يؤدي إلى ظلم الفرد لربه ، وهو خطأ فاحش لان بعض الأفعال أو الأشياء التي تخضع للإرادة الإنسانية تنافي الإرادة الإلهية ونسبتها للحق هو من سوء الفهم ونقص المعرفة بالنفس وبالحق سبحانه.
وللتوقف في المقام أسباب وإلا فليس من المعقول أن يتوقف المريد للكمال في مقام ما بدون سبب ، والمقام واسع جدا بحيث لا يكفي في بلوغ نهايته العمر الإنساني ، ولكن لهذا التوقف أسباباً ، منها :
الأول : إن من أرباب القلوب من دخل مقاماً معيناً فوجد بعض الكشوفات والكرامات أو كثرة العطاء التي ولّدت لديهم الركون النفسي والرضا بهذا المقام مما أدى إلى استقراره.
حيث أن بعض المكاشفات أو الكرامات تنزل على وجه الاختيار أو التحفيز فإن استخدمها الإنسان بغير ما نُزّلت من أجله حجبته عن الهدف الجزئي المؤمل وصوله إليه.
وذلك إن كل كرامة أو كشف أو عطاء هو غير الله تعالى فالركون إليه هو حجاب يوجب التوقف عنده.
والتخلص من هذا المرض الباطني لا يكون إلا بصفاء النية والإخلاص الحقيقي الموصل إلى عدم رؤية الإخلاص !.
الثاني : حصول بعض الأحوال المشابهة لمقامات عالية ، المؤدية أحيانا إلى توهم المريد بدخول ذلك المقام المولد للفرح الباطني الموجب للتوقف، والله لا يحب الفرحين.
الثالث : إن في بعض المقامات لذة تشابه اللذة الأخروية فعند حصولها يتعذر على الإنسان تركها ، والدخول في صعوبة هي من كمالهِ, فيبقى في نفس المقام وبها تتحقق العدالة من الإرادة.
الرابع : إن الحق تعالى في بعض الأحيان يصرف المريد بمقام ما عن مقام أخر وذلك لعدم وجود القابلية لتحمل ذلك المقام ، أو لعدم قابليته لحمل الأسرار الإلهية ، لان كل سر إلهي يحتاج إلى قوة تحمل واستعداد اكبر من دخول كل مقام ، وكما قيل إن الله اطلع على قلوب عباده فرأى منهم من لا يصلح لحمل المعرفة فصرفه بالعبادة ، فأما أن يكون عابداً أو زاهداً أو متوكلاً أو غيره من المقامات التي تكون على قدر استحقاقه ، فيحجبه الله تعالى بهذه المقامات لعدم تحمله , وهذا يعود إلى ضعف الهمة الموجب لظلم الاستعداد.
وقد رأينا احد أرباب القلوب وقد قضى عشرين سنة في مقام التسليم وهو راضٍ على حاله ! فلو أراد هذا الشخص إتمام كماله ومؤكد بنفس المعدل ، فسيحتاج إلى مئات من السنين لكي يصل إلى الفناء.
الخامس : أحيانا تكون العلة في الأصل ، أي النية فتكون النية هي الوصول لذلك المقام فمن العدالة إبقاءه في هذا المقام ، وذلك لإشراكه المقام مع الحق سبحانه.
فهذا من الأسباب المؤدية إلى الموت المعنوي الباطني في مقام من المقامات.
ومن هذه المقامات مقام التوكل ، وهو من أوسع المقامات التي دخلها أكثر العارفين إن لم يكن كلهم . وقد حث القرآن الكريم على دخول هذا المقام . وهو من المقامات المشتركة بين الظاهر والباطن أي موجود في كِلا العالمين.
حيث يكون طرفه الظاهر ، أي الظاهر الإيماني ونهايته الباطن.
قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة : ٢٣] أي أن من علامات المؤمن هو التوكل ، وقد يَحُول الافتقار للتوكل دون دخول الإيمان لان الخطاب هنا موجه للمؤمنين ، أي أن من لا يتوكل على الله فليس بمؤمن . وقال أيضاً : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ابراهيم : ١٢] أي إن من أراد أن يتوكل ، فالله أولى أن يتوكل عليه ، ومن المؤكد إن كل إنسان هو متوكل , لكن في تغاير وتفاوت . وهذا ليس بالجديد إنما حقيقة ظاهرية ، فمنهم من يتوكل على عقله ومنهم من يتوكل على عمله وكذلك من يتوكل على قوته أو من يتوكل على أبيه ، وكذلك من الجهة الأخروية فمنهم من يتوكل على عمله في دخول الجنة ومنهم من يتوكل على شفاعة الشافعين وهلم جرا ، لان التوكل هو محو الإرادة الفعلية وليس محو الإرادة في الفاعل الأول.
فمن أراد أن يتكل على شخص في فعل معين ماديا كان أو معنوياً وجب أن يكون في المُوَكَل الصفات المؤهلة لوقوع المطلوب على الوجه الصحيح . وكل فعل هو داخل الصفات وكل كمالات الإنسان في الصفات الإلهية أما ما دونه فهو إلى العجز أقرب منه إلى القدرة والى الجهل اقرب منه إلى العلم وقد قال سبحانه : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر : ٣٦] حتى تطلب الكفاية من غيره سبحانه , فيجب أن يكون التوكل على من يُضمِن لديه أداء الفعل , ولا يَضمن سد احتياجات الإنسان إلا الحق سبحانه.
ويجب في التوكل الإخلاص وذلك باليقين الكامل بأداء الفعل حيث التوكل. أما إذا توكل الإنسان وفي نفسه شيء من الشك في عدم انجاز الفعل فسوف لن يتحقق غرضه ، وهذا يعود أما إلى الجهل بالله واعني الصفات أو عدم الثقة به سبحانه ، وكلّه من الظلم.
والواجب أن يخلو من كل حركة نفسية تخالف توكله . ولا تكون إلا بمعرفة الصفات بالمعرفة الحقيقية ، حيث أن من عرف صفات الحق حصل على اليقين الموجب لمحو الإرادة الفعلية وعدم بقاء حركة نفسية ، واليقين على قدر المعرفة , لكن يجب أن تكون مصحوبة بالمعايشة الواقعية.
وهذا التوكل هو توكل متوسط لأنه توكل مادي أي يكون في القضايا الدنيوية والأخروية المادية من طلب الرزق أو الجنة أو غيرها.
أما القسم الآخر من التوكل وهو أرقى من الأول ، وليس الأول في واقعه إلا تمحيصاً واستعداداً لدخول هذا التوكل ، وأعني به التوكل المعنوي ، والذي لا يتحقق إلا بعد معرفة باطن الصفات ، فعندما يفتح الحق للمريد سر الصفات وعلاقتها بالذات ، عندها يكون التوكل المعنوي فيتوكل الإنسان على الحق وحده وذلك لعدم وجود القدرة على العطاء المعنوي الباطني إلا عنده سبحانه , حيث لا يعرف حقيقة عطاء الله إلا المتوكلون . والعطاء فيه هو الرزق المعنوي المشتمل على الكشوفات الحقيقية والمكاشفات النورية والتجليات.
وهذا المقام يعتبر من المقامات الكائنة في نهايات السفر الأول ، أي تكون مُطلّة على مقام الوصول ، وخصَّ الحق أصحاب هذا المقام بمحبته , إذ يقول جل ذكره : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران : ١٥٩ ] فكل من دخل التوكل المعنوي ، وجبت له المحبة المستفيضة من الحق سبحانه بما اوجب هو سبحانه على نفسه ، اعني المحبة المؤهلة لدخول مقام المحبة وذلك بأن يكشف الحق تعالى له حقيقة صفاته الموجبة للحب الموجب للعشق المجرد والمنزه عن المصالح.
فعندما تُخَلّص النية تكون الطهارة الباطنية الكاملة ، لان المحبة مصحوبة بإزالة الحجب المؤدية للبعد ، وان من أحبه الله قربهُ إليه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون من كل أمر.
وأحيانا يكون الوصول من هذا المقام مباشرة ! حسب اختلاف حال الرجال ، وفيه تكون المباشرة لعدم رؤية غير الحق ، فتسقط كل قدرة وكل علم ، ولا يرى إلا منه وبه ، فتكون الحجة أبلغ ، لأنَّ ترددي في الآثار يوجب بُعد المزار . والقدرة واحدة ، ولكن الاختلاف عَرضي ، فكل قدرة يكون فيها اختلاف عن الأخرى ، وذلك بالعارض ، والاكتساب هو عارض ، فيكون الاكتساب من الآثار حجاب عن رؤية القدرة المؤثرة.
ويختلف دخول المقامات بين أهل الله وذلك لان لكل إنسان حاله الخاص به فمنهم من يدخل مقامات أكثر من غيره.
أما مقام التوكل فبما رأينا من فوائده الجليلة نرى ضرورة دخوله من قِبل أصحاب الظاهر وأصحاب الباطن على مختلف المعتقدات ، وكلٌ على قدر ما يهب له الحق.
( والفضل للبادئ بالعطاء )