الباب الثامن

نظرة في بــاطن القرآن

نظرة في باطن القرآن 1

     إن الحق سـبحانه قـد نـزّل العديد مـن الكتب أو الصحف على الأنبياء السـابقين وقد جمعها كلها في القرآن ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ |الأنعـَام: 38|. وهذه الكتب كانت على مستويات متفاوتة، حيث التنزيل عـلى مسـتوى قابلية المجتمع ثم يتدرج بتدرج رقي المجتمع، فما نزّله الحق في الأمم السابقة لم يكن تمام المطلوب أو الغاية إنما هـي أهداف جزئية من خلالها يكون الوصول لاستقبال الغاية الحقيقية، فالإنسانية واحدة منذ زمن آدم حتى موعد الظهور، ومع ذلك نـرى تغـير فـي القـوانين، فقوانين المسيح تختلف عن قـوانين الإسلام، وذا الاختلاف يعود الى إن المجتمع العربي قد ترقّى فاسـتحق أن يدخـل مرحلـة جـديدة من الكمال. والترقي هنا ليس بالعبـادة أو ما يشاكلها؛ فالعرب لم يكونوا من أصحاب العبادة الى حد كبير، اما الترقي بجموع جوانب الانسان.

وكل كتاب سماوي عبارة عن أحكام على مستوى تلك الأمة، هذا ظاهراً، أما باطناً فـإن الكتـاب السماوي هو امتداد لسلسلة نظام باطني عام.

وبجمع القـرآن لكـل الكـتب المُنزلة، فقد أبقى منها ما أبقى ونسخ منها ما وصل إلى غاية كماله، فالإحكام التي استنفدت فائدتها إذا بقيت أضرت بالنظام أو الدين الجديد، إنما تبقى التي لم تستوفِ كمالها بعد.

وباحتواء الكتاب العظيم للكتب الأخرى استبطن ما انطوت عليه من طرق لمعرفة الحق بصورة شاملة ودقيقة. وعدم التفريط فيه أعطى شمولية أوسع من مسألة احتوائه للكتب السماوية وقد أشرنا إلى هذه المسألة تفصيلاً في كتاب – الألطاف – في معنى قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ |الأنعـَام: 38| وتبين لنا هناك أن الفهم الأولي للآية هو ( إن هذا الكتاب جمع علوم ومعارف كل ما يصدق عليه مفهوم الشيئية، أي كل ما حوى الكونان المادي والمعنوي من مستوى نزوله إلى ما دون ذلك، ولولا اختصاص الإحاطة بالله تعالى لقلنا أحاط. واكرر القول إن هذا الاحتواء والإحاطة هو من مرتبة نزول القرآن وما دون، أما ما فوق ذلك فليس للكتاب حظٌ منه.

ولهذا أصبحت الكلمة القرآنية تُحمل على مستويات لا تُحصى من المعنى، وأصبح للقرآن بواطنٌ عديدةٌ مترتبةٌ تصاعدياً إلى آخر مراتبه وهي مرتبة الصدور. والظواهر أبواب للبواطن، وعدم بيان الباطن ليس نقصاً في الظاهر بل هو من كمال الظاهر وقوته.

وهذا النظام الترتيبي هو من كمال القرآن، وبه يحقق أمرين لابد منهما:     

الأول: هو لأجل تحقيق العدالة، بأخذ كل مُكلّف لاستحقاقه، فالظاهري يأخذ ظاهره والباطني يأخذ باطنه وظاهره على اختلاف المستويات.

 والثاني: هو من اجل حفظ المعرفة عن غير أهلها، فلو فَتح الحق باطن القران لأضر ذلك بأصحاب الظاهر، والشيء الآخر إن باطن القرآن لا يقتصر على معنى واحد حتى يمكن إظهاره؛ بل إن معانيه ربما تكون لا نهائية وهي من الكثرة والعمق بحيث أن بعضها لا تتحمله العقول فتسارع إلى رفضه ولا تستسيغه النفوس فتبعده عن خواطرها، وكما قال شيخنا -دام عطاؤه- (بما أن الله لا نهائي فربما يقصد معاني لا نهائية في القرآن) وهذا من مواطن الإعجاز الحقيقي للقرآن العظيم، حيث احتواء الكلمة المحدودة على معاني لا نهائية. وعليه يكون كشف بواطن القرآن على قدر إدراك الفرد لمراتب الكمال الباطني، وأقصد بالإدراك الذوقي لا الادراكي، فكلما تحقق في مرتبة من مراتب الباطن كُشفت له المرتبة الموازية لها من باطن القرآن.

وقد وضع الله تعالى في ظـاهر القرآن قوة الجـذب لباطنه، فهنالك من الآيات ما يكون باطنها أوضح من ظاهرها لمن كان في المستوى الأول، وأعني استحقاق الدخول للباطن الأول للقران.    

 

أساليب القران:

إن للقران أساليباً عدة من خلالها يكون دخول القران للقلوب والعقـول، ومن هذه الأساليب ما هو ظاهري وما هو باطني، ففي ظـاهره قـد أجاد كل الأساليب التي تكون أبواباً للجذب القرآني بصـورة عامة، ثم اوجد بعض الأساليب التي يكون من خلالها الدخول عامـاً، وكذلك حوى الأساليب التي يكون من خلالها الدخول في بـاطن القرآن، ومن ذلك عدم بيان مفهوم الآية بياناً ظاهرياً تاماً، ممـا يـدل عـلى وجـود جانب آخر يبين مفهوم الآية! فيكون من خلاله الدخول إلى باطن الآية. وجاءت هـذه الأساليب على جميع المستويات البشرية المحتمل اطلاعها على هذا الكتاب من كل الطرق، ومن ذلك نـرى إن كـل من قرأ القران أخذ منه على قدره؛ بل إن بعض الآيات جاءت على سبيل الفعلية أكثر مما هي قولية، ومعنى ذلك إن بعض الآيات تخلف أثراً في باطن القارئ من حيث لا يشعر ولا يدرك ذلك الأثر إدراكاً آنياً، فربما أزالت الآية بعض العوالق العقلية أو الأمراض النفسية أو أضافت كمالاً لأحد جوانبه، نعم أحياناً يشعر الفرد وليس يدرك بعض الآثار السطحية أو المؤقتة للآيات. وهذا يعود للأسلوب الإلهي وما للآية من قابلية واستحقاق لحمل الأثر الكمالي، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ |الحديد: 16| فمما حملت الآية من الآثار الإلهية والمؤثرات الكمالية، هو الأسلوب، فإنها جاءت بأسلوب تقوية الإرادة القلبية وذلك لأنها جاءت على وجه التأنيب القريب من جهة السيطرة والتي توجب حركة في باطن الإنسان.

وهناك ما هو أوسع وأعمق يستطيع أن يدركها الإنسان من خلال التفكر.

إن الأساليب القرآنية كائنة على مستوياته لاختصاص كل مستوى بأسلوبه. وهذا باب واسع من أبواب باطن القرآن قلَّ داخليه بل دُثر باندثار مريديه.

وأما غرائب هذا الكتاب الكبير فمنها إن الآية الواحدة منه فيها من المستويات والمراتب ما تناسب جميع الدرجات والمقامات والأحوال التي يمر بها الفرد، أي أن الآية تناسب في مستوياتها كل الاستعدادات على الاطلاق. وكذلك فإن من عجائبه الترابط الذي حواه سواء في آياته أو مستوياته، على الرغم من عدم الترابط الملحوظ ظاهراً في بعض آياته، لكن لو كُشف للإنسان لرأى ترابطاً وثيقاً بين كل آية وأختها.

 وظاهر القرآن ليس حجة على باطنه إنما هو دليل عليه، يقول الإمام الباقر عليه السلام: (إن للقرآن بطناً وللبطن بطنٌ وله ظهر وللظهر ظهرٌ وليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية لتكون أولها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متصل يتصرف على وجوه).

واعلم: أن نظام الترابط القرآني هو من الترابط الغريب، فلو بدلت آية مكان آية أو قدمت آية وأخرت أخرى أو نقلتَ آية من سورة إلى أخرى، لما أخلَّ ذلك بالنظام الترابطي الباطني للقرآن وهذا من أسرار القرآن، وهـذا من ضمن أسباب سكوت أئمتنا (ع) على ترتيب القران على غير وجـه التـنزيل، وهو مصـداق لقوله : ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ |فُصَلَت: 42| أي إن التغيير على غير التنزيل من التأخير والتقديم لا يضـر بنظـام القـران، أما لو حملنـا الآية على ظاهرها، فان تغيـير أماكن الآيات إن لم يكن بـاطلاً فهو من ملازماته، وقد وقع ذلك في كثير من الآيات، ففي سورة المائدة قدمت النتيجة على المقدمة فقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ |المـَائدة: 3| هي الآية الثالثة من السورة، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ |المـَائدة: 67| هي الآية السابعة والستون من السورة ، وهذا يؤثر على مصداقية الآيـة وهو مشكل، إنما الآية عن باطن القران، لان التغيير الظاهري بالقران ليس له مـن الضرر ما للتغيير الباطني لو وقع، وان كان مستحيل الوقوع.

وأصـل هـذا الإعجاز هو طبيعة الآية من احتوائها كل المستويات الممكنـة الوقوع، وبما أن للآية مستويات عديدة، فتكون لها أطراف عديـدة، ولا بـد أن تلتقـي والأخرى بأحد الأطراف.

وبالتقريب فإن كـل آية تحـوي مسـتويات الآية الأخرى، وهـذا من كمال القرآن وهو خاص به دون سواه من الكتب السماوية الأخرى، والتي افتقرت إلى هذا الكمال وأدى إلى محدودية كمالها، لهذا أصبح البقـاء عـلى الكـتب السـابقة هـو من التوقف في طريق الكمـال، حيث ان الكتب السـماوية هي مناهج كمالية لها غاية محدودة وهي القران.

وهذا بدوره أعطى مندوحة للإنسان بأن يستخرج كل العلوم من القران، ولكن هذا يحتاج إلى استعداد عالي للغاية، ومـن سار في طـريق الحق كشف الحق له علوم التنزيل والتأويل لتعلق معرفة الكتاب بمعرفة مُنزّله، وبما أن القرآن صادر من عالم الصفات فمن عرف صفات الله عرف القران، وكذلك يمكن تحصيل معرفة الحق عن طريق القرآن لكنها تتوقف عند مستوى من مستويات الربوبية.

وبه يكون القران من مراحل الباطن، ويحـمل بعض مستويات المعرفة الكائنة دونه، أما المعارف التي هي أعلى منه فإنها لا تكون في القرآن، فليس هو غاية المعرفة أو نهاية العلم الإلهي، وبما أن العلم من الصفات اللامتناهية وجب أن يكون هناك ما هو أعلى من القران.

 

ومـن أهم الاسـتعدادات لمعرفة القران بعد التجرد، هو التفكر، والتفكـر لا بالعلوم الظاهريـة كسـبب التـنزيل أو البلاغـة والإعراب! إنما بالنظـر للآية التي توحي بأن لها باطناً قـريباً دون تقييد الآية بقيود عقلية وتفسيرية، فبمـا أن النيـة هي معرفة باطن القرآن مع حسن الظن بالله ووجود استعداد ولو بسيط فسوف يفتح الله لعبده الفتح المبين. ويجب أن يعامل الإنسان هذا الكتاب العظيم بكل ما يتصور من أوهام العظمة، يقول الرسول الأعظم: (من أُعطيَ القرآن فظنَ أن أحداً أُعطيَ أكثر مما أُعطي فقد عظّم حقيراً وحقّرَ عظيماً)      

 

(وله الحمد أن أخفى كتابه عن غير أهله)

اترك تعليقاً