الصـــلاة وأَبعـادهـــا
ورد في سورة إبراهيم قوله تعالى عن لسان إبراهيم: ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ) [سورة إبراهيم اية -40].
ما المقصود من دعاء إبراهيم (ع) ربي اجعلني مقيم الصلاة؟ أفلم يكن مقيم للصلاة حين دعاءه؟! المفروض أنه كان من المصلين بدلالة معرفته للصلاة، فلماذا يطلب من ربه أن يجعله مقيماً للصلاة وهو واقعاً مقيماً للصلاة ؟. وجواب ذلك من وجهين:
الوجه الأول: قوله اجعلني مقيم، أي اجعلني مواظب ومستمر على الصلاة الى نهاية عمري، والإقامة في الشيء هي المكوث فيه والبقاء عليه.
الوجه الثاني: أي اجعلني مقيماً للصلاة بحدودها وصورتها وجوهرها الذي ارتضيته وأردته في سابق علمك. وهي الصلاة الكاملة الصورتين، الصورة الجسدية والصورة القلبية.
والذي يُلفت الانتباه إن إبراهيم بعلو مقامه يستطيع أن يطلب من الله تعالى ما هو أعلى وأكثر أثراً من الصلاة، فلماذا أختار أن يطلب إقامة الصلاة، علماً أن الصلاة هي بداية الإيمان ويشترك فيها جميع المؤمنين؟.
أقول: أن من يعتقد أن الصلاة بما أنها المنطلق الأول فهي الأدنى مرتبة، فقد حقّر عظيماً وجَهَلَ كبيراً. وهذا وهم ربما وقع به كثيراً من الجهّال.
الصلاة ليست هوية المؤمن فقط، ولا أنها تكليف يجب الخروج من عهدته، وليس هي خضوع لله واعتراف بربوبيته فحسب، الصلاة أكثر من ذلك وأعظم منه بما يفوق التصور. الصلاة هي:
أعلى مراتب خدمة الله تعالى لمن أراد أن يخدم الله سبحانه، قال الإمام الصادق (ع) : ( إن طاعة الله خدمتُهُ في الأرض، وليس شيءٍ من خدمته يَعدِلُ الصلاة ) [وسائل الشيعة ج 4 ص39].
هي: العروة الوثقى التي تعصم الإنسان من السقوط، وتجعله معلقاً بمرتبتها لا ينزل إلى ما دونها ما دام مواظباً عليها.
هي: كفارة لما يرتكبه العبد من الذنوب بين أوقات الصلوات، قال الرسول الأعظم: ( فإذا قمتَ إلى الصلاة وتوجهتَ وقرأتَ ….. وسلّمتَ غُفر لك كل ذنب فيما بينك وبين الصلاة التي قدمتها ) [وسائل الشيعة ج1 ص 393].
هي: الوقت الأمثل لنزول العطاء الإلهي القلبي، حيث يكون قلب المصلي تجاه حضرة الحق جل جلاله.
هي: الحاجز بين العبد وبين الفحشاء والمنكر. فعن رسول الله (ص) في رجل كان يصلي ويرتكب الفواحش قال: ( إن صلاته ستنهاه يوماً ما، فما لبث أن تاب ) [بيان المعاني ج4 ص 485].
هي: الوقت الذي اصطفاه الله دون الأوقات ليقبل بوجهه على العبد، إن أراد العبد ذلك.
هي: القاعدة العامة التي تناسب جميع المستويات لتأسيس الرابطة الحقيقة بالله سبحانه.
هي: الفعل الذي يصلح لاستزادة كل أنواع العطاء في كل مراتب الإيمان، لذلك صاحبت الإنسان إلى أي مقام وصل.
هي: المانع من انغماس الإنسان في الدنيا، فكلما ولج إلى الدنيا جذبته الصلاة إلى الآخرة، وصرفت نظره من الخلق الى الحق تعالى.
هي: الوقت الذي خصصه الله تبارك وتعالى لسماع العبد وطرح ما يريده ذلك العبد من نجوى أو شكوى أو دعاء أو رفع مظلَمته إليه، ويكون سبحانه حاضر بنفسه لا بملائكته ولا غيرهم، وقد ورد عن الصادق عليه السلام: ( إذا استفتح العبد في صلاته أقبل الله عليه بوجهه الكريم، ووكل به ملكاً يلتقط القرآن من فيه التقاطاً، فإن أعرض عن صلاته عنه ووكله إلى الملك ) [مكارم الاخلاق ص 300].
هي: الفعل الذي يُنظر من خلاله إلى بقية الأفعال ويُقاس عليه استحقاق بقية الأعمال، قال الرسول الأعظم: (إن عمود الدين الصلاة وهي أول ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحَّت نُظِرِ في عمله وإن لم تصِح لم يُنظر في بقية عمله) [وسائل الشيعة ج 4 ص 35].
هي: المولد والمنتج لإرادات الأفعال العبادية الأخرى، فعلى مدى قوة الإقبال عليها والحضور فيها تكون قوة الاندفاع للأعمال العبادية الأخرى.
هي: الحارس الأكبر -بعد بارئها- إن حفظتها في أشق المواطن عليك حفظتك في أخطر مواقف يوم القيامة.
هي: الصلة النورية الأولى المحددة لقوة وضعف الاتصال بحضرة القدس.
هي: أكبر أبواب الرحمن لطالب الرحمة، وأوسع أبواب الرزاق لطالب الرزق، وأسهل أبواب الغفار لمن رام الغفران، وهي أقرب نوافذ المحبين لمن أراد وصال المحبوب. وهي الماء الجاري لنجاسة موت القلوب. وهذا قليل من كثير.
فلا يقولن جاهلٌ واهمٌ خائبٌ أن مقامي أعلى من أن تفيدني الصلاة! أو أن اهتمامي بعملي أولى من اهتمامي بصلاتي، أو هي عبادة روتينية.
يكفيها شرفاَ أنها باب الله الذي منه يؤتى، وإنها محبوبة الرب، ولم يحببها الله تعالى إلا لمن أحب، يقول الحبيب (ص): ( جعل الله جلّ ثناؤه قُرَةَ عيني في الصلاة، وحَبَّبَ إلي الصلاة كما حَبَّبَ الى الجائع الطعام، والى الظمآن الماء، وإن الجائع إذا أكل شبع، وإن الظمآن إذا شرب رَوِيَ، وأنا لا أشبع من الصلاة ) [ميزان الحكمة ج5 ص 367].
ولولا الصلاة لضاع الدين كما ضاعت أديان أخرى حيث قوام الدين بقوامها، ولأصبح القرآن كتاب مطالعة لا كتاب عبادة، فهي عبادة أسَسَت عبادات، فكانت المحور لهذا الدين.
والحمد لله رب العالمين