حَيرَة
كان على درجة عالية من الإيمان والمعرفة، في ليله قائمٌ مُسبّحٌ ومتدبرٌ بألاء الله شاكر لأنعُمهِ، وفي نهاره ذاكراً لله عاملاً بما يرضيه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، أراد ان يبني بيتاً لله تعالى في الأرض (مسجد أو ما شابه) فبدأ بالتخطيط لذلك واستشارة أهل الاختصاص، ثم باشر بالبحث عن الارض المناسبة والموقع الملائم. وبعد تمام ذلك، بدأ بالاستعداد للبناء من تهيئة الارض وشراء مواد البناء وغيرها، وأصبح يقضي نهاره كله في متابعة مشروعه والإشراف عليه بحرص المؤمن على آخرته، وإن جَنّ عليه الليل فكان إما أن يؤدي شيئاً من عباداته السابقة أو يخطط لعمل غدِهِ أو يرهقه التعب فينام باكراً. فأضحى يبتعد عن تسبيحاته وعبادته النهارية، ويتكاسل عن عبادته الليلية، فقد هيمن العمل على اهتمامه، وحينما وصل البناء إلى منتصفه، انتبه الرجل إلى تقصيره في عبادته الخاصة وتفكر متسائلاً:
هل ان بناء بيت لله أبعدني عن الله؟! وكيف يُبعد عن الله ما كان لله؟ لكني واقعاً أهملت عبادتي والتي كانت سبباً في تقربي إلى الله! وأيضاً كنتُ أشعر بالله تعالى شعوراً قلبياً واضحاً حينما أؤدي تلك العبادات، وكنتُ أشعر أن علاقتي بالله تعالى أقوى وأوكَدُ من الآن، فهل يمكن أن تكون العِلّةُ في نيتي؟ وهل أردت السمعة وطلب الدنيا من هذا المسجد أو تخليد أسمي؟ أخذ يفكر ويدقق في نيته التأسيسية؛ فلم يجد أي شائبة أو إرادة غير التقرب لله تعالى، لكن ورغم ذلك فإنه فقَدَ ذلك الشعور والحال الذي كان يغمره حين قيامه بعباداته.
ثم أخذ يُحللَ الأمر ويناقشَهُ عقلياً: المسجدُ فيه خدمةٌ كبيرةٌ للمؤمنين، وتحقيقٌ للغرض الإلهي، وهو مكان سيُذكر فيه الله تعالى كثيراً، أكثر من ذكري لله تعالى سابقاً، وهو مكان للهداية والوعظ والتعريف بالله عز وجل، وبيانُ حق الله على العباد، وهذه الخصائصُ، أدناهُن أعظم من عبادتي!، إذن فلمَ عدم الارتياحِ هذا أو القلق؟ المفروضُ أن أكون في غاية الانشراحِ والسرور والشعور بالسكينةِ وليس عدم الارتياحِ أو الكُربة.
فقرر الذهاب لأحد العُقلاء ممن يُحسن الظن برأيهم ورجاحةِ عقلهم ليطرح عليه الأمر، عسى أن يخرج بنتيجة، فوصل اليه وطرح الامر بتفاصيله.
فقال له العاقل: إن ما حصل معك هو انتقال بمرتبة العبادة، فقد كانت عبادتك في السابق هي الذكر والمناجات وغيرها، ثم ارتقيت إلى مستوى العبادة العملية وهي أن تؤسس شيئاً لله ربك، فهذا رُقيٌّ وليس نزولاً.
فشكر صاحبُنا العاقلَ واستودعه الله ورجع إلى بيته مسروراً مُعتمِداً الكلام الذي سمعه. وفي الصباح ذهب ليكمل البناء ولم يشعر بالانزعاج أو عدم الارتياح، واستمر على ذلك الحال سبعةَ أيامٍ، وفي اليوم الثامن عاد إليه حالُ الكُربةِ وعدم الارتياح الذي لا يعرف سببه، استرجع كلماتِ صاحبه العاقل لأجلِ إزالة هذا الحال لكن عبثاً، كأنها كلماتٌ كان لها أثرٌ محدودٌ وأنتهى.
قال في نفسه الحل الوحيد هو العودة لحالي السابق فأرجع إلى عباداتي حتى لو كُنت مُرهقاً أو مُنشغلاً وصممَ على فعل ذلك.
رجع إلى بيته وتوضأَ وصلى ثم ذكر الله ببعض الأذكارِ، بعدها جلس للتدبرِ، حتى أنتهى من عبادته، فأوى إلى فراشه، لكنه شعر بشيءٍ وهو أن ذلك الحال الذي كان يجده في العبادة سابقاً لم يجده بها الآن, لم يشعُر بذلك الارتياح والسكينةِ، لم يشعُر بذلك الحضور. وفي اليوم التالي ذهب إلى العمل ثم عاد الى بيته وتوجه إلى غرفته لأداء عباداته، وكذلك كانت هذه العبادات عبارةٌ عن كلماتٍ وحركاتٍ خالية من الروح.
وبعد اليأس وانقطاع الحيلة قرر الذهاب إلى العالِم والذي يسكن في قلب العاصمة؛ لأجل أن يستفتيه في أمره ويقف على علته، في الصباح لم يذهب إلى البناء إنما توجه إلى العاصمة، وبعد سفرٍ طويلٍ وطريقٍ وعرٍ استمر لساعات وصل إلى مكان إقامة ذاك العالِم، وعندما حان دورُه توجه بالسؤال:
السلام عليكم أيها العالِم.
العالمُ: عليك السلام والإكرام.
فطرح الرجل مشكلته الأولى والثانية.
فأجابه العالِم:
ان مشكلة التقصير في عبادتك ومشكلة ذهاب روح العبادة بعد رجوعك إليها كلاهما يعودان إلى سببٍ واحدٍ وهذا السبب هو: وَهمُ الصغير والكبير، فحينما رأيتَ أن بناء شيءٍ لله تعالى أمرٌ كبيرٌ صغُرَ في عينك ما يُقابله، ولما صغُرَ هان، فقَتلتَ روحَهُ بعدم الاهتمام، وإنما وضِعَت المساجدُ لأجل عبادتك التي كُنت تتعبدَ بها، فلا قيمةَ للمساجدِ دون ساجدٍ.
والسلام.
مُنتظر الخفاجي
الثالث من ذي القعدة / 1443
الموافق 2/6/2022
الساعة 04:05 فجراً