الثقافة والمثقف
قد لا يوجد اتفاق تام لتعريف الثقافة، من حيث المضمون، أوالعناصر والمقومات التي تتألف منها الثقافة، أو من حيث البيئة والمجتمعات المختلفة التي تتعامل مع هذا المصطلح الحديث نوعاً ما، والسبب يُعزى الى الجهل بمعنى الثقافة كمفهوم من حيث اللغة، والمصاديق والاشتقاقات المتولدة عن ذلك المفهوم.
ما جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كل من هَب ودَب لتوظيف واطلاق هذا المفهوم دون قيد أو ضابطة.
ولذا فان العودة الى اصل ذلك المفهوم والتعرف عليه، يمنحنا رؤية واضحة جامعة لأركان واهداف الثقافة، ومانعة من الانزلاق والوقوع في متاهات التوزيع العشوائي للألقاب والاختصاصات الدخيلة الى تلك الدائرة بالانتساب أو الادعاء، ويُمكننا ايضاً من اعادة تجنيده بهيئته وشكله الصحيح والمنضبط.
الثقافة لغة مستمدة من الفعل الثلاثي ” ثقف ” ولها معانٍ عدة منها: الحذق، الذكاء، سرعة التعلم، الفطنة، ضبط العلم، الفهم، التقويم، التسوية، التهذيب، التشذيب، الظفر.
فيقال غلام ثقف : أي ذو فطنة، ثَقِفَ الكلام : بمعنى حذقه وفهمه بسرعة، وثَقَّفَ الرمحَ : إذا قوّمه وسوّاه، وثَقَفه إذا ظفر به وادركه قال الله تعالى ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ )، وثقف الولد : بمعنى هذبه وعلّمه .
وفي اللغة الانجليزية فأن كلمة ” culture ” ترجمتها العربية تعني ” الثقافة، الحضارة، الاستنبات، التثقيف، التهذيب، الحراثة.
وفي الاتفاق اللغوي بين العربية والانجليزية دعم لبحثنا، ودفع في اتجاه واحد لإرساء مفهوم مؤكد، حتى مع وجود مصاديق مختلفة ” كالحراثة، الاستنبات ” فهي تستبطن ذات المعنى، وجميعها تؤدي الى غاية واحدة.
فأذا ادركنا أن معنى ” الثقافة ” يدور حول تلك المعاني التي قدمتها لنا اللغة، من الحذق والفهم السريع والادراك والظفر والتهذيب والتسوية، فأننا نحصل على ثلاثة نتائج موجزة تختزل هذا الموضوع :
النتيجة الاولى :
وهي ان المثقف هو ذلك الفرد الذي تتحقق فيه تلك المصاديق من الوعي والادراك وسرعة الفهم، والذكاء والحذق، فتلك ادواته التي يتمكن من خلالها من استخلاص الافكار والاستنتاجات وتحويلها الى تطبيقات عملية هادفة.
إذ ان وظيفة المثقف وظيفة رسالية عابرة للقوميات والاعراق والاديان والالوان والاجناس.
فالمثقف هو ضمير المجتمع الحي، ولسانه الناطق المعبّر عن صحوته، والداعي الى إعمال العقل، واستنهاض الهمم، وتفجير الطاقات، وغرس بذور الوعي في محيطه ومجتمعة، مواجهاً بذلك كل التحديات والصعوبات التي قد تعترض طريقه .
النتيجة الثانية : الثقافة الخاصة :
وهي دائرة فردية توجب العمل بمقتضى ذلك الفهم والادراك لتسوية وتهذيب واعداد الفرد، فيعمل بما قد عَلِم، ويبادر الى تكميل نفسه، وسد ثغرات نقصه، بإيتاء كل ذي حق حقه، أو كما قيل : إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه، فثقافة القلب بالتوجه الصحيح والارتباط المعنوي الجاد والعبادة المؤدية اليهما، وثقافة العقل بالاطلاع وتعلم المهارات، واكتساب ادوات البحث والتنقيب الفكري، وثقافة الجسد بالرياضة والحركة وما لها من انعكاسات تعم كل البدن.
فالثقافة الخاصة اذاً هي دائرة فردية تتركز حول الاعداد الشخصي لكل فرد، و تشمل جميع مستوياته وجوانب وجوده.
الثالثة : الثقافة العامة :
وهي دائرة عامة تقتضي مشاركة ذلك الوعي الخاص، وانفتاح بوابة الفكر والمعرفة الفردية، على المجتمع بنحو عام، وبذل تلك المعارف الى مستحقيها كلا بحسبه، كمساهمة فعلية في رفع نسبة الوعي والادراك، والنهوض بالمستوى المعرفي للمجتمع ككل، وتشخيص نقاط ضعفه وقوته وتقديم الحلول الناجعة لمشاكله، وكل ما يعرقل مسيرته، وتلك مسؤولية كبرى تقع على عاتق المثقف بالدرجة الاولى.
أو قل هي تفعيل واستثمار للنتيجة الاولى والثانية، والدعوة الى التغيير والتجديد بما يوافق ويناسب كل مرحلة.
الخلاصة :
* ان الثقافة هي اسلوب حياة جامع وشامل ومسؤول، وهي منتج انساني يبتني على تلك المقاييس التي قدمناها، ولاعلاقة لها بالشهادات الاكاديمية الجامدة، ولا المناصب والاختصاصات العلمية المقيدة في دوائرها الضيقة، ما لم تنعكس تلك المؤهلات وتترجم الى تطبيقات عملية وسلوكية تتعدى دائرة الفرد والاختصاص لتشمل البيئة والمحيط والمجتمع ككل، وتعود عليه بالمنفعة والتقدم.
* وان القيمة الحقيقة لتلك الشهادات العلمية لا يتعدى كونها شهادة، واعتراف بالدراسة وحيازة للعلم الخاص في هذا المجال لا اكثر، ولا علاقة لها بالثقافة من قريب او بعيد .
* وان كل متعلم أو مختص لا يغادر مجال اختصاصه، ولا يسعى الى تنوع مشاربه، وينمّي مواهبه، ويفعّل ما اُودِع فيه من قدرة للابتكار والابداع، والمشاركة في التغيير والتجديد كعضو فاعل في المجتمع فهو متعلم فقط، و ليس كل متعلم مثقف ولا عكس، فلا يشترط في المثقف درس خاص ولا شهادة.
باسم الخفاجي