الباب الخامس عشر

التوبــــة

التوبة 1

إن من المقامات الباطنية المشتركة مع الظاهر هو مقام التوبة، وان كان الاختلاف بينهما شاسعا من حيث المرتبة الكمالية، ولكن التوبة الظاهرية هي المرتبة الأولى لباطن التوبة.

والتوبة هي الرجوع بترك الخطأ على حسب مستوى صاحبه أمام الحق سواء كان خوفا من عقابه أو هجره، أو طمعا بعطائه أو به، أو حياءً من صفاته أو منه.

وبما أن الحق أوجب علينا المسير في الخط الصحيح لكل العوالم سواء كانت دنيوية أو أخروية، مادية أو معنوية بالوجوب العقلي البشري تارة، -أعني أن بعض الأنظمة وضعت من منطلق كمالات العقل البشري لكي يتقبل الإنسان ذلك النظام ويقتنع به القناعة التامة الموجبة للمسير فيه-، وتارة بالعلم الإلهي الكائن فوق مستوى العقل؛ فوجب على الإنسان أن يسير في ذلك الطريق ولا يخرج عنه، وإذا خرج لزم الرجوع إليه.

فكان باب التوبة للرجوع حين الانحراف إلى الطريق المرسوم لصاحب تلك المرتبة، لذلك كان لكل مرتبة ومستوى توبته الخاصة به والتي تلازم ذلك المستوى إلى حين تجاوزه. وقد رتب الإمام الصادق والعدل الناطق (u) التوبة على خمس مراتب تبعاً لأصول مراتب الكمال، فقال: {التوبة حبل الله ومدد عنايته ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفيس، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله، وتوبة العام من الذنوب} وبيان هـذه المراتب:

المرتبة الأولى: توبة الأنبياء. وهي من اضطراب الس . والسر، هو القلب إذا ارتقى وصفى وحوى على الأسرار الإلهية، وكذا هي قلوب الأنبياء. واضطرابه تارة بسبب هول مطّلع النوازل، فيضطرب السر وإن كان لا يظهر منه شيء على الظاهر، وتارة أخرى يكون اضطرابه بظهور آثار الأسرار الإلهية على المعالم الظاهرية لغلبة السر على قالب النبي. وهذا في شرع الأنبياء من موجبات التوبة.

المرتبة الثانية: توبة الأولياء من تلوين الخطرات. والتلوين هو التداخل في الخواطر وعدم التمكين منها، ويكون بما يطرأ من خواطر الحال الداني إلى من في الحال العالي، ومنه الخواطر الاستقلالية لمن في حال الفناء، والخواطر العقلية لمن حاله الإلهام، وهذا التلوين يعُد في شرع الأولياء من الذنوب والذي يجب التوبة عنها.

المرتبة الثالثة: توبة الأصفياء. وهي من التنفيس، والتنفيس يكون حين الكرب الذي يُنزله الحق تعالى على قلوب أصفياءه. وطلب التنفيس أي التخفيف من الكرب أو التسلي عنه يُعد من كبائر الذنوب في شرع الأصفياء، والتي يجب التوبة عنها. أي عندما يسلط الحق تعالى الكرب على قلوب أصفياءه بأي فعل كان يجب أن لا يلتفت الصفي إلى ما يخفف عنه هذا الكرب أو يخرجه منه.

المرتبة الرابعة: توبة الخاص. وهي من الاشتغال بغير الله، وليس بغير ذكر الله فبينهما فرق شاسع. وعلى الخاص أن يكون كل مفردات حياته لله، فيكون عيشه لله، وإن اشتغل بشيء غير الله أو لم يكن لله، عُدّ ذلك في شرعه ذنب يستوجب التوبة.

وأما المرتبة الخامسة وهي توبة العوام فلا تحتاج إلى بيان.

وعلى الرغم من اختلاف مراتب التوبة إلا أن جوهرها واحد والذي هو ترك الذنب وعدم الرجوع إليه مرة أخرى.

والتوبة هو المقام الأول لطلاب الكمال، حيث به تُختم مرحلة الظاهر بعد أن يكون المريد قد أدى كل الواجبات واجتنب كل المحرمات. فينتقل إلى مرحلة الخواص فيكون حسابه أشدّ؛ لأن وطأة الذنب تكون اشدّ مما في المرحلة السابقة، وكلما ارتقى الفرد في الكمال حُوسب على قدر ما وصل إليه.

وعادة تستلزم التوبة سقوط العقوبة المترتبة على الذنب، وربما استلزمت العقوبة في حين آخر. أما إسقاطها للعقاب فهي في المراحل الأولى من الباطن ومراحل الظاهر كافة وذلك لعدم ترتب المصلحة على العقوبة، فالمراحل الظاهرية والمراحل الأولى في الباطن يكون فيها الإنسان ذا استعداد واطئ وإيجاد العقوبة تعرضه لفتور الهمة وطغيان النفس والتي تكون في هذه المرحلة في أوج قوتها.

 أما بالنسبة لاستلزام التوبة للعقوبة فذلك عندما يكون في العقاب فائدة للإنسان وهي في الشطر الثاني من مرحلة النفس وما فوقها. لان التوبة هي رجوع لأخذ الكمال فإذا كانت العقوبة فيها شيء من الكمال أصبحت من ضمن ضروريات خط الكمال، وحسب ما رأينا أن العقاب يوجِب في المرحلة الأولى من مراحل القلب جلاءً للقلب.

ومن هذه العقوبات في مقام القلب هو الكرب القلبي وهو حال من أحوال القلب يطرأ على الإنسان بعد ارتكاب الخطأ مباشرة أو بعد لحظات يسيرة، أي هو من نوع العقاب المُعجّل والذي بطبعه يُسقط العقاب الأخروي، سواء كان أخروياً في الحياة الدنيا، أو أخروياً في الحياة الآخرة، وهذا من النعم الكبرى. ويكون الكرب على قدر الخطأ فإن كان كبيراً عُرَّض الإنسان لهذا الحال بصورة أكبر أو مدة أطول.

ومن فوائده:

أولاً: معرفة الذنب الباطني، إذ المريد في أكثر الأحيان لا يعرف الذنب في الباطني، وهو مُطالَب بتجنّب الآثام الباطنية، قال تعالى: ﴿وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ |الأنعام: 120| وطبعا ذلك بعد تجاوز الإثم الظاهري.

وعدم معرفة الإنسان للذنوب الباطنية يعود لدقة الذنب الباطني. فالغفلة مثلاً من الذنوب الباطنية فعند وقوعها يحصل للإنسان ذلك الكرب.

ثانياً: إن معرفة الكرب هو من معارف القلب وجهاته وأحواله، فالمعرفة الأولى توصل إلى ما بعدها ثم إلى الهيمنة على القلب ومن ثم تجاوزه.

ثالثاً: إن وقوع الخطأ يوجب فرز حجاب قلبي، ما يؤدي إلى حجب الإنسان عن أمور كثيرة مهمة منها الإحساس القلبي، فالعقاب هو جلاء لذلك الحجاب عن القلب.

رابعاً: إن انتقال الإنسان بين حالتي الكرب والانشراح هو أسلوب من أساليب الجذب الإلهي الباطني، لان القلب له سيطرة معتدٍ بها على الإنسان فإذا تنقّل الإنسان بين حالتي الكرب والانشراح جُذب إلى جانب آخر مما يؤدي إلى قلة التفاته إلى الدنيا فهو من ضمن الاستعدادات لدخول مقام التجرد.

خامساً: بالتوغل بهذا الحال يعرف الإنسان قبول عمله من عدمه.

 

هذا وإن التوبة من الذنب موجبة للاستغفار، فهو جزء من كمال التوبة.

وينبغي أن نشير إلى انه لا فرق بين الكبيرة والصغيرة، حيث أن كل ذنب بحق اللانهائي يعتبر ذنبا لانهائياً، وعليه يجب أن يكون الاستغفار لا متناهياً! وإذا كان لا متناهٍ لزم عدم الخروج من مقام التوبة! وعدم الخروج هذا يعتبر موتاً معنوياً في خط الكمال؟.

وهذا ما وقع فيه بعض أرباب الباطن، والخروج منه يكون باليقين الحق بالمقام الثاني في مقامات التوحيد أي بصفة المغفرة.

فإن من كان له يقين بمغفرة الحق لذنبه وثقة به مستفادة من معرفة الصفة فإنها ستكون غفران للذنب؛ لذلك يكون إطالة الاستغفار حجاب ونقص في معرفة الغفّار! وعدم المعرفة توجب عدم اليقين الموجب لبقاء الذنب.

والاستغفار الملازم للتوبة في مقام التوحيد وهو المقام اللانهائي يختلف عن غيره، يكون على حسب مراتب التوحيد الثلاثة، حيث الاستغفار هو طلب المحو، فالمغفرة الأولى من الحق لعبده وهي مغفرة ذنب وجود الأفعال، فيستغفر الإنسان عن أفعاله جميعاً، فيكون محو الفعل بالفاعل الأول وتعود الصوادر إلى منبعها، وبعدها تتحقق التوبة بعدم وجود الفعلية الاستقلالية باستقلال الذات الإنسانية وهذا جلاء الحجاب الأول.

 ومن ثمة تكون التوبة من الذنب الأكبر أي مغفرة الصفات، عندها يكون البقاء في صفات الحق، كما أوضح في كتابه العظيم: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ |الفتـح: 2| أي ذنب الصفات وما ينتج منها في عالم الاستقلال وإرجاع الصفة من الموصوف الوهمي الداني إلى الموصوف الحق، فتتجلى كمال جلال صفاته في خلقه فمنها يكون ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ |فّّصــلت: 21| بالرجوع الحق. فبدء الغفران في دخول معرفة الصفات الإلهية.

أما الذنب الثالث وهو أكبر الذنوب سواء كانت ظاهرية أو باطنية، بل هو منبع الذنوب ومنه ينتج النقص والإحساس بالتقصير والفراغ، هو ذنب الاستقلالية الذاتية وهو شطر الآية: ﴿وَمَا تَأَخَّرَ﴾ |الفتـح: 2| أي ما بقي من ذنب الوجود الاستقلالي الذي لا يزول إلا بالوصول إلى غاية المعرفة.

والتوبة هنا تكون بعدم الرجوع إلى النظرة الاستقلالية لأنها تُعد أعلى أنواع الإشراك.

فهذا الشطر من الآية هو وعد الحق لرسوله الأعظم وإن كنا نرى أن الآية عامة وليست خاصة بالرسول.

 وأما التوبة في مقام النفس فهي الإقلاع عن الأفعال النفسية والخروج من ذلك العالم، ولا يتأتى إلا بهلاك النفس ﴿تُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ﴾ |البـقرة54:| وليس المقصود منها هو المفهوم طبعاً. إنما يكون بتجاوز مقام النفس، وهي كذلك مراحل عديدة يطول المقام بذكرها.

وإن التوبة من كمال المسير فهي نقطة الانطلاق التكاملي، فكل توقف تعقبه توبة تكون هي بداية مسير جديد بإرادة مختلفة ونية جديدة.

 

(وله الحمد أن أغلق علينا باب القنوط بفتح باب التوبة)

اترك تعليقاً