قــاعـــدة التكــليف
المدرك:قوله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ } [البقرة : ٢٨٦].
المفهوم: إن الإنسان فطر على الطاعة أي جُعلت الطاعة من ضمن المرتكزات الفطرية للإنسان والمستفاد منها أعني الطاعة هو تطبيق مراد الحق تعالى للإنسان لأجل تشريف الإنسان وتطهيره وتحقيق مصلحته وسعادته المتمثلة في التقرب للحق المطلق بسلم الإيمان والكائنة في الخلود في مرضاته. فكان الغذاء الحقيقي للإنسان والمؤدي به إلى غايته هو ما ينزله الحق تعالى عليه من أوامر وتكاليف والتي بأدائها يصل الإنسان إلى سعادة الدارين، فوضع الحق تعالى إزاء هذه التكاليف قواعد تساعد الإنسان على فهم النظام الإلهي الذي وضع من اجل الإنسان. فكانت هذه القواعد هي أساس في ذلك النظام مقومة لما يليها من أجزاء النظام.
وقاعدة التكليف هي قاعدة إلزامية أي ملزمة للنظام العام من قبل واضع هذا النظام، ومضمون القاعدة أن كل ما يكلف به الرب سبحانه عباده هو داخل إطار سعتهم وقدرتهم في تحمله وفهمه وتطبيقه، ويتحصل منه بيان الحق لعباده بأن لا يتوقع أي إنسان بل أي مخلوق أن يكلف بما هو خارج عن قدرته وطاقته، وتكليف الإنسان بما لا يطيق لا يخدم مصلحة الإنسان. وتصرف الإنسان إزاء التكليف الخارج عن طاقته لا يعدو عن وجهين إما أن يطبقه تطبيقاً ناقصاً لأنه خارج عن قدرته وإما أن لا يطبقه إطلاقاً، وكلا الأمرين لا يخدم نظام الإنسان بل لا يوصل إلى أي نتيجة.
التطبيق: الاستفادة من هذه القاعدة في زيادة الرقي الإيماني يعتمد اعتمادا كلياً على اليقين بأن كل ما يأتي من جهة الحق تعالى هو داخل الوسع الإنساني وليس من تكليف خارج عنه وان توهم الإنسان ذلك فعلياً. فيكسر الحق تعالى بهذه القاعدة وهم التخويف النفسي بصعوبة التطبيق للأوامر الشرعية أو الإيمانية، فكثيراً ما يتردد الإنسان في الإقبال على الإعمال الإيمانية خوفاً من الصعوبة ومواجهة ما لا يطيق وهذا التردد نابع من النفس وليس له واقع خارجي، فأراد الله تعالى أن يكسر هذا الوهم بتثبيت هذه القاعدة وجعلها ضمن المعتقدات الإيمانية للفرد.
بل أكثر من ذلك هو أن التكليف الإلهي يأتي بأقل من وسع الإنسان دائماً لأجل التيسير والتوفيق لأداء ذلك الأمر يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( ما أُمر العباد إلا بدون سعتهم فكل شيءٍ أُمر الناس بأخذه فهم متسعون له )) [ميزان الحكمة / باب التكليف / حديث ١٧٧٩٠] أي إن للعبد القابلية ليس فقط على أداءه بل وأداء ما هو أصعب وأعلى منه درجة.
لكن رب سائل يقول بل ليس سائل! إنما أكثر الناس تقول:
إن الله يعرّضنا لما لا نطيق من الصعوبات والضغوطات والتي تخرج عن حيز تحملنا بل تؤدي بنا إلى الجزع والاعتراض على الله فهل هي داخل الوسع؟ أقول: إن الحق تعالى أعطى الإنسان القابلية على تحمل أمره وتطبيق تكليفه، بل أعطاه القابلية على تحمل ما لم يكلفه به، كل ما في الأمر إننا كنا لأنفسنا ظالمين؛ لأن القابلية موجودة لدينا لكن لا نستخدمها إنما نستخدم أقرب شيء إلى نفوسنا الإمارة بالسوء وهو الجزع والاعتراض على أمر الله وإلا فمن يصبر من الناس من أين يأتي بالصبر وهو مثلك لا يختلف عنك؟ كل ما في الأمر انه لم يتكاسل عن استخراج هذه القابلية المودعة فيه لأرادته ذلك وأنت عجزت بمطاوعة نفسك عند الحدث فلا تتأمل من نفسك خيراً، بل إن أتفه الأمور وأصغرها إذا استقبلها الفرد بنفسه الأمارة بالسوء فسوف يرى عند أدائها صعوبات كثيرة، وليس هذا نقصاً في التحمل فلا توهمك نفسك بذلك. واليك مثال آخر، إن الله تعالى كلف عباده بالصيام فترى بعض أهل الإيمان يفرح برمضان ويؤدي الصيام بانبساط وراحة والبعض الآخر يتشائم من رمضان، ولا يصوم رمضان وان صام فيمزقه شر ممزق في الإسفار وتوهم الإمراض والإخطار؛ والسبب في ذلك ليس اختلاف في أصول القابليات وإنما الأول استقبل رمضان بقلبه والثاني استقبله بنفسه. ومن نظر إلى الأمور بنظرة نفسية أي بمطاوعة نفسه فسوف تجعل النفس من اليسير عسيراً ومن الجميل قبيحاً وإلا فأن صاحب النفس له القابلية على التحمل وأداء الأمر الإلهي كغيره.
قال عز من قائل: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس : ٨] أي قابليات الفجور وقابليات التقوى والتحمل وقوة الإرادة من التقوى المودعة في الإنسان. قال العدل الناطق والإمام الصادق ( عليه السلام ): (( ما كلف الله العباد فوق ما يطيقون – فذكر الفرائض – وقال: إنما كلفهم صيام شهر من السنة وهم يطيقون أكثر من ذلك )) [ميزان الحكمة / باب التكليف / حديث ١٧٧٩١]، وكذلك انزل علينا البلاء اليسير ونحن نطيق أكثر من ذلك.
واعلم إن التكليف الإلهي يقع على أقسام متعددة وكلها داخل وسع الإنسان وليست بخارجة عنه ومن أهمها:
أولاً: التكليف المتمثل بما أمر الله تعالى بإيتائه من العبادات والمعاملات واجتناب نواهيه من المحرمات المرديات وكلها لم يشرعها الحق تعالى إلا بعد إيتاء الإنسان الوسع في ذلك ولولا ذلك لبطل النظام التشريعي.
ثانياً: البلاء: وهو النازل الإلهي لأجل الغفران والتكفير عن الذنوب ورفع الدرجات في محال جنانه، كذلك لا ينزل منها نازل إلا بعد توفر الوسع لدى الإنسان لتحملها واستقبالها على الوجه الحق وبالتالي إيتاء نتاجها.
ثالثاً: العطاء: فانه تعالى شأنه لا ينزل عطاءاً على عباده إلا بعد أن يوجد لديهم الوسع لتقبله بحيث لا يكون ذا وطأة شديدة تؤدي إلى تسافلهم وابتعادهم عنه تقدس اسمه.
رابعاً: الاختبار: فإن الحق تعالى لا يعرّض عبده لأي اختبار من أجل تثبيت منزلة أو إخراج من مستوى دانٍ أو إزالة غفلة أو غيرها إلا أن يكون قد اوجد الوسع للنجاح في ذلك الاختبار قال تعالى: { وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [المؤمنون : ٦٢] أي إن ذلك ما خطته يدي القدرة في لوح القضاء وهو أن لا تكليف بغير الوسع وإلا فسوف يدخل في نطاق الظلم والله تعالى متعالٍ عن الظلم بغناه، فهم لا يظلمون من جهة الحق بتكليفهم ما لا يطيقون. وأما إهمال الإنسان لوسعه وطرحه جانب واختيار ما تملي عليه نفسه فهو من ظلم العبد لنفسه.
دام عطاؤكم مولانا 🙏
كنتَ ومازلتَ معيناً لا ينضب، ابانا الحبيب .
جزاكم الله تعالى كل خير