الجزاءُ
لابُدَّ لكُل عَملٍ مِن عاقبةٍ وجَزاءٍ، وإلا فَسيكونُ العَملُ عَبثياً، فَكل مَن يُؤدي عَملاً ما عظيماً أو حقيراً لابُدَّ أن يكونَ هنالِك جزاءٌ لعملِه هذا، وقد يكونُ الجزاءُ في نفسِ العملِ أو قد يعقِبُه.
إن مَن يَرومُ تربيةَ أُسرتِه تربيةً صحيحةً ويَضعُ لهم نِظاماً تَربوياً يَضمَنُ معَه وصولَهم إلى أفضلِ المراتبِ الإنسانيةِ، سيكونُ بحاجةٍ إلى نِظامٍ جزائيٍ، وهذا النظامُ الجزائي لا يَقِلُ عطاءُه عن فائِدَتين، إما التَحفيزُ وإما التَكميلُ، فعِندما يقومُ إبنُك بِفعلٍ جَيدٍ وتُجازيِه على فِعلهِ ذاكَ، يَكونُ هذا الجزاءُ محفزاً ودافعاً لتِكرارِ الفعلِ وأداءِ ما يُشابِهُه مِن الأفعالِ، هنا تكونُ قد حَفزتهُ ودفَعتَهُ لأداءِ الأفعالِ المُناسبةِ.
مثلاً ، حينما يقومُ إبنُك بكتابةِ قِصةٍ وتَجِد أن في كتابتِه نَقصاً كبيراً، قُمْ بشراءِ مجموعةٍ مِن القَصصِ واهديها إياهُ حينئذٍ تكونُ قد ساعَدتَهُ على تقويمِ كتاباتِه للقَصَصِ وتقويةَ قابِليتِه على ذلِكَ.
والجزاءُ قِسمانِ: ثَوابٌ وعِقابٌ
فالثوابُ : هو الجزاءُ على فِعلِ الصوابِ، والذي مِن المُفترضِ أنْ يَدفعَ الإبنَ لأداءِ الفِعلِ الأفضلِ والإرتقاءِ لمِا هو أعلى مِما حَقَقهُ سابقاً. حيثُ يَنظُر الأبُ حينَ الثوابِ إلى نوعِ الثوابِ المُناسِب للإبنِ آخِذاً بعينِ الإعتبارِ جميعَ جوانبَ الإبنِ النفسيةِ والعقلية والقلبية والروحية، فيُثيبَهُ بالثوابِ الذي يُحَقِقُ لَه فائِدةً تُساهِمُ في وصولِه إلى ما خُطَ لَهُ مِن غايةٍ. ومِن جانبٍ آخرٍ يَنبغي أن يتوسطَ ربُ الأُسرةِ في إثابَتِه بينَ الإفراطِ والتفريطِ، فقد يَدفعُ الفَرحُ برَبِ الأُسرةِ إلى أنْ يُثيبَ الإبنَ بثوابٍ يُخرِجهُ عن حدِ الإصلاحِ إلى حدِ الإفسادِ، أو قد يَنظرُ رَبُّ الأُسرةِ إلى إنجازِ الإبنِ بعينِه لا بعينِ إبنِه ! حينها قد يَستَصغِرُ الإنجازَ, الذي هو في عينِ إبنِه عظيماً، فيَظلِمُ إبنَهُ حينَ الثوابِ، لذلك نقولُ: يَجبُ على رَب الأُسرَةٍ أن يَنظُرَ لِكُل جوانِبِ إبنِه ثُم يُقرِرَ نوعَ الثوابِ.
وأما العِقابُ: فهو الجزاءُ على الأفعالِ الخاطِئةِ وهو ينطَوي على الإيلامِ أو الحِرمانِ .
هذا هو التعريفُ العملي لمفهومِ العقوبةِ في القوانينِ الوَضعيةِ، وغايةُ تلك العقوباتِ هي إيقافُ الخطأ ودَفعُ المُخطئ لعدمِ تِكرارِهِ في المُستقبلِ، وقد تكونُ بعضُ العقوباتِ إنتقاميةً مَحضةً.
والعملُ بهذا المفهوم للعقوباتِ قد يكونُ ضَررَهُ أكبرُ مِن نَفعِه، ومِن خلالِ التجارُبِ لم يُعطِ هذا الأسلوبُ نتائِجاً مُعتبرةً، والسببُ في ذلك هو الفهمُ البسيطُ للأخطاءِ والجرائِم، فحينما نَنظُرُ للخطأِ على أنه فِعلٌ سيءٌ وهادِمٌ يَنبغي أن يُعاقَبَ من يقومُ به، فهذهِ نَظرةٌ سَطحيةٌ ساذَجةٌ، لأننا لا نعلمُ السببَ الدافعَ لهذا الخطأ، لا أقصدُ السببَ الظاهريَ وإنما السببَ الداخلي، وأعني بهِ النقصَ الداخلي الذي تَوَلدَ مِنه خاطِرُ التَقصيرِ أو الرغبةُ بالخطأِ، وهذا يَتطلبُ تَعمُقاً لِفَهم نفسَ وعَقلَ المُخطئ. ثُم إن التَخلُصَ من الخطأِ ليس بالعقوبةِ الإنتقاميةِ، بل بإزالةِ مُسبِبِ هذا الخطأ وقلعِ جذورَ مولِداتِه وإلا فلا ضامِنَ لعدمِ رجوعِ المُخطئ لتَكرارِ خطيئتِهِ حتى معَ وجودِ العقوبةِ.
الذي فهِمناهُ مِن خلالِ تَتبعِ العقوباتِ الإلهيةِ في حياةِ الأفرادِ اليوميةِ، إن العقوباتَ حَسَب النظامِ الإلهي هي عقوباتٌ عطائيةٌ وليست إنتقاميةً.
فإذا أمعَنتَ النظرَ بأيةِ عقوبةٍ إلهيةٍ ستَجِدُها عَطاءاً مَحضاً تَلبّسَ ثوبَ العقوبةِ، وأعني به عِقاباً إصلاحياً وتقويمياً حَملَ صعوبةً نِسبيةً على النفسِ، وحينَ وقوعَ العقوبةِ الإلهيةِ نجدُ إن المُعاقَبَ قد إختَلفَ وضَعهُ عن السابقِ أو إرتَقى مُستواهُ أو إلتفتَ إلى أمورٍ كان غافلاً عنها.
ومن هذا المُنطلقِ نقولُ: لأجلِ أنْ يكونَ عِقابُ رَب الأُسرةِ مُثمراً يَجِبُ أن لا تَخلو عقوبَتُه مِن الأمورِ التاليةِ:
أولاً: أن تكونَ العقوبةُ عطائيةً وليست إنتقاميةً، من قبيلِ أن يُعاقَبَ الإبنُ المُخطئ بالإستماعِ لمُحاضَرةٍ وتَلخيصَها، أو أن يُكلفَ بأمرٍ يَكسِرُ لديه الخوفَ أو التَردد، أو عمَلٌ يُحقِقُ له فائدةً ماديةً وهكذا، نَعم هو سَيراها عقوبةً لأنها صعبةٌ على نفسهِ أو تَضرِبُ بعضَ الثوابتِ النفسيةِ لديه لكنها ستُساهِمُ في بناءِ شخصيتِه وتَكميلِ ذاتِه.
ثانياً: يَنبغي أن لا تتَعدى العقوبةُ حجمَ الخطأِ، وإلا فسوفَ يقعُ المُربي في إشكالِ الظُلمِ والضغطِ العبثي على رعيتِه، ومِن الُمؤكَدِ أن الظُلمَ في العقوباتِ ناشِئٌ مِن العقوباتِ الإنتقاميةِ حيثُ شهوةُ الأنتِقامِ التي تدفعُ الإنسانُ لإختيارِ أشد العقوباتِ، أما إنْ كانت العقوبةُ عَطائيةً فإنها ستكونُ بعيدةٌ كُل البعدِ عن إشكالاتِ الظلمِ والضغطُ العبثي.
ثالثاً: إن إستطاعَ رَبُّ الأُسرةِ أنْ يختارَ مِن العقوباتِ ما تكونَ مُزيلةً لأساسِ الخَطأ أو جزءٍ مِنهُ، أو على أقلِ تَقديرٍ أن تكونَ ماحيةً لأثارِ ذلِك الخَطأ، فإن ذلِك أفضلُ وأكملُ.
رابعاً: ـ وهي نقطةٌ مُهمةٌ ـ على المربي أنْ يَنظُرَ إلى الخطأِ على إنهُ كاشِفٌ عَن الخللِ الموجودِ في نفسِ المُخطئ، فمَن أخطأ مَعك فقد دعاكَ بِلسانِ خطأِه لمُعالجةِ نَقصِه، فيَبدأُ المربي بالعملِ على علاجِ ذلك الخللِ.
خامساً: أن يَتجنبَ رَبُّ الأُسرةِ ترتيبَ آثارٍ في داخلِه على الخَطأِ أو تِجاهِ المُخطِئ عموماً، مِن قَبيلِ الغضبِ أو الإنزعاجِ الطويلِ الأمدِ، بل يَجِب عليه أن يُزيلَ كُل أثرٍ أحدَثهُ الخَطأُ في داخلِه تِجاهَ المُخطئ قبلَ أن يُصدِرَ العقوبةَ.
سادساً: إن وَجَدَ المُربي في نفسِ إبنِه ندماً على خطأهِ أو لوماً داخلياً أكثرُ مِن اللازمِ أو أكبرُ مِن الخَطأ، فعليهِ أن يُخرجَه مِن دائرةِ الندمِ واللومِ هذه، قبلَ أن يتحولَ الندمُ إلى إنكسارٍ في عزيمَتِه وسوءِ ظنٍ بنفسِهِ.