زرعُ القيمِ الإنسانيةِ العُليا
مِن الأمورِ المُهمةِ التي يَتَجلى بها مَعنى الأُبوةِ ومَعنى التربيةِ ويُحَقِق من خلالِها رَبُّ الأُسرةِ رسالتَهُ الشَريفةَ، هي زرعُ القيمِ والمبادئ الإنسانيةِ العُليا في أُسرَتِه، فمهما كانَ مستوى الإنسانِ العقلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، إن خلا من تلكَ المفاهيمِ، فقد خرجَ عن إنسانيَتِه، لأن جوهرَ الإنسانيةِ هو ما تَحمِلُهُ مِن مفاهيمٍ عُليا، حيثُ تُعَدُ هذه المفاهيمُ أساساً وقاعدةً لِكُلِ بناءٍ يَرومُ الإنسانُ تَشييدَهُ، سواءٌ أكانَ بِناءاً دنيوياً أو أُخرَوياً أو تَكاملياً.
فهي القاعدةُ الأُمُ لكُلِ هذه الطُرقِ، فينطلقُ الفردُ مِنها لتحقيقَ أيةَ غايةٍ في عالمِ الدُنيا.
ومِن أُمَهاتِ هذهِ المبادئ والمَفاهيمِ ما يلي:
أولاًـ حُبُ الخيرِ للغَيرِ :
إن لهذا المبدأ المعنوي فائِدةٌ كُبرى للفردِ يمكنُ النظرُ إليها من ثلاثِ زوايا:
الزاويةُ الأُولى: على الصعيدِ الدنيوي، حيثُ تَجعلُ للفردِ شَخصيةً مُحتَرمةً ومَقبولَةً في كُل المُجتَمعاتِ الصالحةِ والفاسدةِ على حدٍ سواءٍ، وتَجعلُ لهُ مَحبةً ومَكانةً في قلوبِ الناسِ على إختلافِ مراتبِهِم.
الزاويةُ الثانية: إن حُبَ الخيرِ للناسِ وتقديمَ ما يُصلِحُ حالَهم لَهوَ مِن جَوهرِ الدياناتِ بإختلافِ أُصولِها، بل إن الدياناتَ كُلُها قائِمةٌ على هذا المُرتكَزِ، فَمَنْ يَرومَ الجزاءَ الأُخرَوي ونيلَ درجاتَ الجِنانِ، سيكونُ إنطِلاقُهُ مِن حُبِ الخيرِ هوَ الطريقُ الأقصرُ للوصولِ إلى تِلكَ الغايةِ والفوزِ بها.
الزاويةُ الثالثةُ: إن من يَطلُبُ التكاملَ المعنوي والقُربَ مِن الخيرِ المُطلقِ جل جلاله، عليه أن يتيقَنَ إن مَبدأ حُبُ الخيرِ للغيرِ هو مِن المَبادئ التي أُسِّسَ عليها طريقُ الكمالِ، إذ أِن هذا المبدأَ هو مِن المبادئ الإلهيةِ التي نُبصِرُ تطبيقاتَها يومياً، حيثُ أن ما يقومُ به اللهُ تَعالى مِن خَلقٍ وإبداعٍ وتَسييرٍ وتَدبيرٍ، كُلُها بسببِ حُبُ الخيرِ لعبادِه وتقديمُ مَصلحَتِهم وإحداثُ ما يُصلحُهم، فهو مِن مَبادئ التعامُلاتِ الإلهيةِ التي ينبغي لطالبِ القُربِ الإلهي الإقتِداءَ بها.
ثانياًـ مُساعدَةُ المُحتاجِ: سواءٌ أكان إحتياجَه مادياً كالأكلِ والشربِ أو معنوياً كالموعظةِ والنصيحةِ والتعليم وغيرِها، فإن مَبدأَ مُساعدتِهِ هو مَبدأٌ شاملٌ وقاعدةٌ عامةٌ تَصلِحُ أن تكونَ أساساً ومنطلقاً لخيرِ الدُنيا والآخرةِ.
ثالثاًـ الإصلاحُ: وجوهرُهُ إصلاحُ ما يُمكِنُ إصلاحُه مِما فَسَدَ في المُجتمعِ، فيعملُ الفردُ على إصلاحِ النفوسِ الفاسدةِ وإصلاحِ العقولِ المُعطلّةِ وإصلاحِ القلوبِ الميتةِ وإصلاحِ الضمائرِ المُنحرفةِ وإصلاحِ المُعتقداتِ الباليةِ، وكُلُ ما يَدخلُ تحتَ مفهومِ الإصلاحِ.
فهو مِن المبادئ العُليا التي إختَصَ بِها أسيادُ البشرِ مِن أصحابِ الهِممِ وأربابِ العقولِ. وهو أيضاً مِن القيمِ التي تُناسبُ كُل الغاياتِ في عالمِ الدُنيا أو غيرِه مِن العوالمِ.
رابعاًـ نُصرةُ المَظلومِ: وهو مِن الأفعالِ العُليا التي تُساهِمُ في سيرِ المجتمعاتِ بإستقامةٍ، وتَخلِقُ تَوازُناً في المُجتمعِ، وهو مِن القواعدِ المُشتركةِ في البناءِ الدُنيوي والأُخرَوي والكَمالي. فلابُدَّ مِن أربابِ الأُسرِ أن يَزرعوا هذا المفهومَ في نفوسِ أبنائِهم مُنذُ الصِغَرِ ويُقبِّحوا لهم الظُلمَ والعدوانَ على الغيرِ، ويُبينوا لهم أهميةَ هذا المبدأ في تَقويمِ حياة ِالإنسانِ.
خامساًـ إدخالُ السرورِ على قلوبِ الناسِ: وهذا المبدأُ من المبادئِ التي أوشَكتْ أنْ تُسلَبَ من المُجتمعِ، وقد كانَ لهُ أثراً إيجابياً كبيراً في تَرابُطِ المُجتمعِ، وتقريبِ النفوسِ. وهو مبدأٌ عامٌ يَنفعُ على الصعيدينِ الدُنيوي والأُخرَوي، ولا يَحتاجُ العملُ به إلى جُهدٍ كبيرٍ، فقد تكونُ كَلِمةٌ واحدةٌ تُدخِلُ من خِلالِها السرورَ على قلبٍ حزينٍ، أو تَرفعُ بها هماً كبيراً من صدرِ مهمومٍ. فزرعُ هذه المبادئُ في أبنائِنا لَهوَ عَطاءٌ لا يُقدرُ بثمنٍ.
سادساًـ التسامحُ: إن الكثيرَ من المآسي والويلاتِ العامةِ والفرديةِ كانَت بسببِ إنعِدامِ صِفةِ التسامُحِ في المُجتمعاتِ عموماً أو الأفرادِ خصوصاً، فقد إشتعلَت حروبٌ إمتَدت لسنواتٍ وحُصِدَتْ أرواحٌ لا تُحصى بسببِ عَدَمِ وجود التسامُحِ.
إن التسامُحَ ليس مفهوماً أخلاقياً مُجرداً، ولا تعليماً إنسانياً مُترَفاً، إنما هو رُكنٌ مِن أركانِ بقاءِ الحياةِ على هذا الكوكبِ، فبالتسامُحِ تُؤدُ الفِتَنُ، وبالتسامُحِ تُغسَلُ القلوبُ، وبالتسامُحِ تَتجددُ الفُرصُ، وبالتسامُحِ تَصفى النفوسُ، وبه نقترِبُ مِن ذلِكَ النورِ الفطري المودَعُ في دواخلِنا، فهو مِن أهمِ المبادئ وأسماها، وهو مِن أوسعِ القواعدِ الكُليةِ للأنطلاقِ نحوَ كُل الغاياتِ، فكل قاعدةٍ ساميةٍ لا تَحِطُ رِكابَها إلا في غايةٍ ساميةٍ. ومَن إفتَقرَ التسامحَ فقد خَسِرَ خُسراناً كَبيراً.
سابعاًـ تَقبُلُ الآخرِ: الإختلافَ لابُدَّ مِنه وليس مِن سبيلٍ لإستيعابِه الا بِتَقبلِ ذلك المُختَلِفِ، فالأبُ يَختلِفُ عن إبنِه، والزوجةُ تَختلِفُ عَن زَوجِها، والصَديقُ يَختلِفُ عن صديقِه، وهكذا، فلا سبيلَ للتعايُشِ إلا أن نتَقبلَ ذلِكَ المُختَلِفَ، سواءٌ إختَلفَ عنا بالأفكارِ أو الأفعالِ أو الصورةِ أو اللونِ أو الدينِ أو العقيدةِ أو غيرِها مِن الإختلافاتِ.
والتَقَبلُ هنا تارةً يكونُ نفسياً، وذلك بأن أتقبلَ الآخرَ على ما هو عليهِ دون وجود موانع داخلِ نفسي، أي ليس تَقبلُ إضطرارٍ أو تَقبُلُ مُجاراةٍ ومُداراةٍ، بل أُزيلُ ذلِك المانِعَ الداخلي، وإلا أكونُ… واقِعاً… ما تَقبلتُهُ!!وإن كانَ ظاهِرُ أفعالي خِلافَ ذلِك.
إن وجودَ موانع القبولِ الداخليةِ ستجعلُني غيرَ قادرٍ على الإقترابِ الحقيقي مِن ألآخرِ إطلاقاً، لكنْ حينما أُزيلُ تِلكَ الموانعَ والأوهامَ النفسيةِ ـ التي توحِي لي بأن المُقابِلَ أدنى مني أو عدوٌ لي لأنه يَختلِف معي ولا يَنبغي الاقترابُ مِنه ـ،حينها فقط سيكونُ الإقترابُ إقتراباً قلبياً حقيقياً.
وتارةً يكونٌ التَقبلُ فكرياً، فأتَقبلُ أفكارَ المُقابلِ مهما كانت مُخالفةً لأفكاري، ولا أقصِدُ بذلكَ تبني أفكارَهُ والإعتقادَ بها، وإنما أجعلُ عندي سِعةً عقليةً أتَقبلُ مِن خلالِها وجودَ شخصٍ يَحمِلُ أفكاراً مُخالِفةً لأفكاري، وأستسيغُ وجودَه دون أن يكونَ لدي رَغبةٌ في تَغييرِ أفكارِه، فيكونُ عقلي من السِعةِ والإنفتاحِ بحيثُ يَفهمُ أن عالمَ الدُنيا هو عالَمُ إختلافٍ، وإن إختلافَ الأفكارِ لهو مِن أكبرِ مُحرِكاتِ هذا العالمِ، ومِن زاويةٍ أُخرى، فإن خالقَ الناسِ جلَّ جلالِهِ مُتَقبلٌ لَهُم كيفَ ما كانت أفكارَهُم! فيَنبَغي عَليَّ كعاقلٍ أنْ أتَقبلَهم على ما هُم عَليه مِن الإختلافِ الفِكري.
إنَّ مِن أهمِ الأسبابِ المولِدةِ لمُشكِلةِ عدمِ تَقبُلِ المُخالفِ هي أن العقلَ البَشري تطبَعَ على وجودِ صوابٍ واحدٍ والباقي خطأ، وأن الحقَّ واحدٌ والباقي باطِلٌ، وأنَّ الفكرةَ الصحيحةَ واحدةٌ وما سِواها خاطِئةٌ، وهذا المُعتقدُ سَبّبَ الكثير مِن المآسي وجَلبَ الدمارَ للبشريةِ في كُل حُقبِ حياتِها، وهو ليس إلا ضيقاً في العقلِ البشري الجمعي والناشِئ مِن الأنانيةِ، وإلا فمِن أينَ لك أن تَجزُمَ بأن فِكرتَك هي الصوابُ وفكرتي خاطِئةٌ ؟ ولماذا… إما صَحٌ وإما خَطأٌ ؟! ألا يُمكن أن تكونَ فكرتي صحيحةً نِسبةً لي وفِكرتُك صحيحةً نِسبةً لَكَ ؟ أنا أرى أن فِكرتي أعطتني نتائجاً طيبةً، وأنتَ تَرى أن فِكرتَك أعطتَك نتائجاً طيبةً، فأينَ المُشكلَةُ ؟ جوابُ ذلك: إن المُشكِلةَ تتحققُ حينما أنظرُ لفكرتِكَ بعيني وأنتَ تنظرُ لفكرتي بعينِك! وأنا لا أرى إلا عيني وأنتَ لا ترى إلا عينَك، هذهِ هي الأنانيةُ التي ذَكرناها سابِقاً، ومِن هُنا بَدأت الحروبُ الدينيةِ والدنيويةِ، ومِن هنا قُتِلَ أطفالٌ لا يَعرِفونَ ما هو الإختلافَ ولا الأفكارَ ولا المعتقداتَ!!،أعتقِدُ أن قلمي سَرَحَ كثيراً !! وأخرَجني عن الموضوعِ غَفرَ اللهُ لهُ!.
ما نُريدُ قولُهُ أن على رَب الأُسرةِ أنْ يزرعَ في أرضِ أُسرتِه المفاهيمَ العُليا التي تجعلُ أُسرتَهُ في أعلى مراتبِ الإنسانيةِ، وأن يَعيَ أن بِناءَ الأُسرةِ إنما هو بناءُ عالمٍ كاملٍ.