قــاعـدة البقــاء والنمــاء

قاعدة البقاء والنماء 1

المدرك: قوله تعالى: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ} [الرعد : ١٧].

      المفهوم: بما إن للأفعال أثراً من حيث الترابط القائم في دائرة الوجود، أصبح كل أثر يعتمد في عمقه في دائرة الوجود على الفعل المعتمد على مولداته. ومن المجهول لدى الإنسان تفاوت آثار الأفعال في عوالم المادة وعوالم المعنى ولا يميز بين الأفعال طولاً وقصراً في تلك الدائرة. وكذلك إن من الأفعال من يكون لها تسلسل أثري سواء كان بتجديد الدافع أو نفس الدافع الأول والإنسان يجهل ذلك ولا يفرق بين هذه الأفعال إلا على سبيل الأثر المادي. وبما إن الحق تعالى جعل الأفعال البشرية من أسس التكميل في النظام العام من خلال ما تخلفه تلك الأفعال في خطوط وسبل الترابط العام ومقاماته. فكان لكل الأفعال على اختلاف مستوياتها من حيث النوايا والإرادة والقوة الفعلية وحجم الفعل المادي وما يصاحبه من تلازمات وملابسات وما كان منه ما يوافق الطريق المفتوح بالعطاء الإلهي المستهدف للغاية وما كان متوقفا انحرافاً عن تلك الغاية، فكان لكل فعل قيمته من ذلك. وكان تمام ذلك أن يبين الحق تعالى ويصنف الأفعال من عمق الأثر وضحالته وعدم أثريته في الدائرة.

     وعلى ذلك فقد أعطى الحق تعالى موازين لكل أفعال البشر وقيمها على أساس أثرها لا على أساس حجمها، وقد رتب نظام الأفعال على أساس ذلك، ولهذا السبب نرى بعض الأفعال التي ليست لها قيمة كبيرة ظاهراً حسب المقاييس والاعتبارات العقلية نراها تحظى باستحباب الهي عالي، وعلى العكس فان بعض الأفعال الكبرى ظاهراً لم تحظَ بتلك القيمة، الأمر الذي أدى إلى إرباك في المقاييس المعتبرة عقلاً، والتي كون العقل نظامه المادي على أساسها بل هكذا هي البسائط العقلية، فأوجد الحق تعالى وهو مبتدع هذا النظام مقاييس أخرى بعضها غريبة عن اعتبارات العقل. مما اضطر العقل إلى البحث عن مبررات لذلك.

    وكما ذكرنا من اختلاف المقاييس الإلهية عن المقاييس البشرية والنابع من الاختلاف الكمالي حيث صدور المقاييس الإلهية من الكمال المطلق والمقاييس البشرية صادرة عن النقص المطلق أدى هذا الاختلاف إلى أن يوجب الحق على النظام التنزل إلى المستوى البشري بالأسلوب الرافع لذلك المستوى، ومنه بيان بعض الموازين والمقاييس الحقة أو التي حوت على بعض مستويات الإرادة الإلهية المنزّلة من الإرادة العليا للغاية. فوضع الحق تعالى موازين الأفعال وغيّر النظرة البشرية للموازين بل أحدث تغييراً وتجريداً للموازيين والمقاييس البشرية.

     والموازيين الإلهية قائمة على أساس ما يراه الحق تعالى من تخطيط ذلك النظام وغايته، وأما البشر فهم قاصرون عن تلك الرؤية إنما يرون بتلك الأسس الموجودة في عقولهم وهي ليست دائمة العطاء إنما هي أسس مرحلية تعطي حين مرحلتها، ولكل مرحلة موازينها، وتوضيح ذلك ما سمعنا من قضية موسى (عليه السلام) والعبد الصالح (عليه السلام) وهي قضية اختلاف الموازين بين هؤلاء العظيمين وكلاهما على حق إنما يرى موسى (عليه السلام) بالموازين التي هو مقيد بها وهي موازين عقلية شرعية وما رآه العبد الصالح (عليه السلام) فهي موازين في مرتبة أخرى. فيظهر منه كل مرتبة مقيدة بمقاييسها وموازينها والتي تختلف عن غيرها، ولا يهمنا الآن ما هي الموازين الأصلح والأكمل بالنظرة الإلهية الواقعية بل ما يهمنا هو الموازين المطالبون بها ألان والتي يجب أن نبني أفعالنا على أساسها وما هو ميزان قبول الإعمال من قبل الله تعالى؟ وكيف نرتقي بنفس الفعل مرتبة أعلى في الرضا الإلهي؟.

     نقول: إن مستوى قبول الفعل يعتمد على مستوى تأثير الفعل في دائرة الوجود من جهة التكامل والتكميل ماديا ومعنويا، وان كان المعنى مؤثراً في المادة ولا عكس. وتأثر دائرة الوجود وانفعالها بالنوايا والتي هي حقائق الأفعال وليس بحجم الأفعال أو سعتها، قال تعالى: { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ } [الحج : ٣٧] فمهما كانت كمية ما تقدمونه لله من لحوم ودماء وغيرها كبيرة فليست هي المنظور إنما المنظور هو الجانب القلبي أو المعنوي الذي وراء هذه المادة، وعلة ذلك إن النظام هو معنى يحرك عالم المادة كما إن الفكرة تحرك الإنسان. فيتضح من ذلك إن الموازين التي يعتمدها الحق تعالى والتي ينبغي أن نعتمدها نحن كخلفاء لله نروم التخلق بأخلاقه أو كعبيد نبتغي مرضاته هي الموازين المعنوية.

     التطبيق: بما إن تأثير الأفعال يكون على أساس نواياها وكذلك قبولها، جعل الحق تعالى الميزان لقبول الأعمال هي النية، والنية تشمل حقيقة الفعل ومستواه فيتصاعد مستوى الفعل ويتسافل بمستوى نيته. وعلى قدر خلوص النية وصفائها يكون نفاذها وتأثيرها في الوجود، حيث إن النظام العام مؤسس على أساس الخير والطهارة أصبح لكل فعل طاهر الإذن التكويني للنفاذ إلى ذلك النظام والبناء فيه، وكلما كانت نية العبد في الفعل اخلص واطهر كان لها التأثير الأعمق والأدوم وكلما كانت نية الفعل اقل طهارة توقف تأثيره في مستوى محدود , وان كانت النوايا سيئة واعني بالسيئة ليس لله فيها ذكر فتلك أفعال مقطوعة لا ترقى إلى التأثير { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ } [الرعد : ١٧] لأننا قلنا إن النية هي حقيقة الفعل والفعل الذي يخلو من نية لله تعالى ليس له وجود لكي يؤثر لان بقاءه ببقاء جوهره وذهابه بذهاب جوهره، والأفعال المأذونة بالنفاذ للنظام يجب أن تشابه حقيقتها جوهر النظام وهي الطهارة وان خالف الفعل في حقيقته جوهر النظام فليس له النفاذ إلى النظام، نعم الأفعال المكونة من نوايا سيئة لها اثر لكن من جهة أخرى قال تعالى: { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } [فاطر : ٤٣] أي إن لها تأثيراً سيئاً على صاحبها فقط أو من أراد ذلك. أما بالنسبة لأثرها في النظام كأثر معنوي فهو ممنوع؛ لأن ما أسس على الطهارة لا يقبل إلا الطهارة.

     لذلك اوجب الله تعالى النية في كل فعل أريد منه التقرب إلى الله تعالى سواء كان عبادياً أو غير عبادي، وأسقط الأفعال التي خلت من ذلك ولو كانت عبادية، ومثالها العبادات المبنية على نية الرياء مهما بلغت من الكثيرة فإنها ساقطة عن الاعتبار وليس لصاحبها إلا التعب وذلك لسوء نيته.

     ومن عقبات الوصول إلى نية طاهرة وخالصة لله تعالى هو عدم توحيد الإرادة وتشتتها في جوانب عديدة من دنيا وأهواء ومصالح خاصة وغيرها، فكل ذلك له أثر في تضعيف الجانب الإلهي في نية الفعل وتلويث ذلك الفعل بتلويث أساسه. عندئذ لا يرقى هذا الفعل إلى التأثير على وجه الخصوص، فيحتاج الإنسان إلى التصاعد المستمر في مستوى نيته وذلك بتجريدها حين الفعل من المصالح الدنية والمفسدات النفسية حتى يصل بها إلى ما يريده الحق تعالى منه وهو أن يكون فعله خالصاً لله تعالى، بل إن رأى أن هنالك ذرة إشراك في فعله توقف إلى أن يجرده من ذلك الشرك بالتسقيط؛ إذ لا قابلية لأي شيء أن يصمد أمام الله تعالى؛ فبالمقارنة يسقط كل ما دونه، فيجرد نيته ثم يقبل على الفعل بل بعض الأفعال المستحبة إن كانت نيته شائبة ولا يستطيع أن يطهرها ويخلصها لله تعالى فليترك الفعل فيكون تركه لله تعالى بنيه خالصة إن لم تكن هنالك مفسدة في قناعته بترك الفعل.

     ويجب أن يستمر الإنسان بمسألة التطهير ولا يتوقف عند حد معين فان موارد الإشراك كثيرة جداً ومن اليقين إن الله تعالى سيوفق العبد إن رأى ذلك من نيته لأن نية التطهير هي التطهير وتؤدي إلى تطهير.

     واعلم، إن الفعل المبني على نية الله تعالى سواء نية تقرب لله أو نية العمل له تعالى لا يتوقف عند القبول والتأثير بل له من مراتب النمو والانتشار ما لا يعلمها إلا الله تعالى، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (( ما كان لله ينمو )) وينمو تارة في النظام ومفرداته ومن اخصها البشر فيؤثر فيهم وفي نواياهم، وعندما نقول يؤثر أي يؤثر تطهيراً؛ لان النية الطاهرة تكون لها قابلية التطهير فيكون لهذا الفعل نمواً في قلوب البشر على نحو التطهير أو داعيته، لذلك قال الأمير (عليه السلام): (( ما يخرج من القلب يصل إلى القلب )) أي إذا كان الصادر مجرداً من تأثيرات النفس والناس إنما هو قلبي خالص فسوف يجد طريقه إلى قلوب الخلق.

     وتارة ينمو الفعل طاهر النية في نفس الفاعل فيفتح له أبواباً جديدة لطهارة نيته أي مراتب أدق من تلك الطهارة أو يفتح أبواب خدمة الحق عن طريق نظامه.

     أما بالنسبة للأفعال المبنية على سوء النية وطلب غير الله تعالى في ذلك فان هذه الأفعال ليس لها من الأثر ما يذكر إنما هي حسرات على أهلها وان جلبت لهم بعض حطام الدنيا لكنها ستكون سببا داعياً لنزول مستواهم وتسافل نواياهم.

     وكما إن النية الصالحة تكون استعداداً لنزول مرتبة جديدة من عالم الطهارة وكذلك تكون النية الفاسدة داعية لنزول مستوى النية وتردّيها، لذلك قلنا إن لم يستطع أن يوجد الإنسان شيئاً من الطهارة في نية فعله فالأولى الترك؛ لأن الترك لله خير من العمل لغير الله تعالى.

 

This Post Has 2 Comments

  1. محمد جبوري كاظم

    دمتم سماحة ابونا الحبيب ودام فيضكم وعطاؤكم ادام الله سبحانه وتعالى وجودكم

اترك تعليقاً