قــاعــدة الـتفكـر
المدرك: قوله تعالى: { ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس : ٢٤ ].
المفهوم: إنَّ من الملازمات الذاتية للإنسان والتي ركزها الحق تعالى في تكوينه هي قابلية التفكر، وهذه القوة تمثل أحد العوالم الأربعة التي تكون منها الإنسان. ووجود هذا الجانب حكمته، إن المراد تحقيقه من الإنسان وبلوغه بما أراد الحق تعالى منه لا يتم إلا بوجود هذا الجانب في تكوين الإنسان والذي يوصل الإنسان إلى عالم صدور ذلك الجانب ومنه إلى تكميل جانب آخر من مكونات الإنسان. وقد بين الحق تعالى كيفية تفعيل هذا الجانب والاستفادة منه وتكميل النقص به. وكان البيان الإلهي بأسلوبين:
الأول: هو بلسان الفطرة، فجعل الإنسان يلجأ إلى فكره تلقائياً في كثير من أموره والتي غالباً ما تتركز على الأمور المعاشية والدنيوية فكان بذلك النقص والظلم لجانب الفكر أو العقل.
أما الأسلوب الثاني: فكان هو البيان بلسان القلب والحث على الاستفادة منه، وذلك عن طريق الكتاب العزيز والمعصومين (عليهم السلام ) بما تكلموا به من فضل التفكر حتى قال الامام الصادق (عليه السلام ): { تفكر ساعة خير من عبادة سنة } [ ميزان الحكمة / باب التفكر حديث [ ١٦٢٢١].
وجعل الحق تعالى بعض أبواب الخزائن الإلهية لا تفتح إلا بمفتاح الفكر دون غيره من العبادات، وجعل الاستنزال من عالم المعرفة لا يكون إلا بالفكر. وكما جعل الله تعالى لكل مكون من مكونات الإنسان ما يغذيه ويقويه ويمكنه في عالمه، جعل للفكر ما يمكنه في عالم العقول، وهي الآيات والتي جعل الحق منها الغذاء الأسمى للعقول وجعل المراتب على قدر تحمله من عطائه جل جلاله، فيتدرج بها الإنسان في مراتب أفعاله تعالى وصفاته معرفةً. والتفصيل المشار إليه في مدرك القاعدة هو من الإبانة المشتملة على الفصل بين ما يؤدي إلى إيصال العقل عن طريق الفكر إلى النتائج المتوخاة والطريق لبلوغ تلك النتائج عن طريقه، وكذلك يشتمل على إيجاد مفاصل التفكر في الآيات والتي اندرجت في الآيات ضمن نظام التكوين قال تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ } [آل عمران : ١٩٠] أي جعل في ضمن مفاصل الخلق أو مراحله ومراتبه منافذ للفكر، فكان النظام الفكري ضمن أسس التكوين.
والمراد من التفصيل الإلهي للآيات. والآيات هي كل ما خلق الله تعالى.
إن هذا التفصيل هو لأجل المتفكرين لا غير ومن المفترض إن كل إنسان هو متفكر لما اوجد الله تعالى فيه من غريزة الفكر، فيكون البيان والتفصيل هما من رحمة العقول الخاصة وإلا فإن إبهام الآيات لا يضر الله شيئاً.
التطبيق: اعلم إن التفكر عبادة مفروضة لكنها مُضيّعة من قبل العباد على اختلاف دياناتهم ومشاربهم. وليس التفكر مفهوم حث عليه الحق تعالى من أجل الآخرة فحسب! بل إن الله تعالى أسس خطوطاً في نظامه على أساس التفكر ووضع قواعد عقلية في تكوين النظام تتفاعل مع العقول وتوصل العقول إلى غايتها، وكذلك يساهم الفرد في تفكره في البناء والتكميل، فمن تفكر في خدمة نظام الشريعة مثلا فسوف يوفقه الله لأدراك ذلك وتتكون على أساسه خطوات عملية وهي من التكميل الإيماني العالي. فلا يتوهم المرء بأن التفكر أجالت الفكر في ساحة الأشياء فقط إنما هو من مواضع الإرادة العليا. وان كل العبادات السابقة تصب في مرحلة التفكر ولا ينال هذه المرتبة من العبادات ويتوفق فيها إلا من أتقن العبادات السابقة وإلا فانه سيكون معرضاً لكثرة الخواطر والخيالات أثناء التفكر، قال الإمام علي (عليه السلام ) : { التفكر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين } [ ميزان الحكمة / باب التفكر حديث ١٦٢١٦ ] أي الذين خلصت نواياهم وتجردت قلوبهم من شوائب الشرك.
ولان التفكر هو تفريغ القلب أو العقل من كل ما سوى الله تعالى أثناء التفكر فيحدث في حال التفكر في الآيات المُلكية أو الملكوت توحد الإنسان في تلك الفكرة، لكن البقاء في الفكرة يحتاج إلى شيء من المجاهدة والتحمل؛ لأنه ليس تفريغاً ظاهرياً كالعبادات في مراتبها الأولى إنما تفريغ داخلي وهو الأصعب والنتائج أعظم؛ إذ الفكر يوصل إلى نتائج لا يوصل إليها غيره من تعظيم الخالق جل جلاله ومعرفة بعض مواطن إرادته ومعرفة العمل في خدمة نظامه ومعرفة أوليائه ورسله وعدم ظلمهم بالجهل وكذلك عدم ظلم الحق تعالى بالغفلة عن معرفة أياديه من العطاء والبلاء. التفكر هو ما كان بعنوانه العبادي وليس لأجل تحصيل المعارف والعلوم وإلا فيكون حينئذ لا يقل عن قراءة كتاب إنما التفكر الراجح والمطلوب هو التفكر بنية التقرب لله تعالى والانصياع لأمره عندئذ يكون التفكر بأي شيء مقرب إليه وموصل إلى رضوانه، أما إذا كان بغير ذلك فيكون التفكر وبالاً على صاحبه ومُبعداً عن الله تعالى. نعم يعطي نتائج من سرعة الفهم وتوسيع المدارك لكنه لا يوصل إلى مرتبة المتفكرين بل أحيانا سعة المدارك العقلية مع قوة النفس الأمارة توصل إلى نتائج وخيمة ومؤسفة. وكذلك ينبغي أن يُجنى من الأفكار ومواطنها ما استحبه الله تعالى لنا وأكد عليه في كتابه العزيز، أو ما نبهنا عليه المعصومون (عليهم السلام ) وهي مواطن كثيرة، ومن ذلك ما بين الرسول الأعظم في حديث طويل إذ يقول ((… وقد انزل الله عليّ في هذه ألليلة { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ } ثم قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها )). فالمفروض على المتفكر أن لا يجعل من فكره آله لكفره وسبباً لنزول مقامه وبُعداً من عالم النور باستغلال العقل في غير ما خُلق له.
ومن الفوائد المترتبة على التفكر:
أولاً: إن التفكر هو عبارة عن أسلوب لتمتين العلاقة بالحق تعالى وذلك من خلال ما يكشف الحق لعبده المتفكر بعض المعارف عن صفاته تعالى وأفعاله الداعية لمعرفة الحق تعالى المؤدية للتعلق به سبحانه.
ثانياً: إن التفكر بأي أمر ما يولد إرادة تجاه ذلك الأمر، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام ): (( من كثُر فكره في المعاصي دعته إليها )) [ عيون الحكم والمواعظ ] وذلك لما يولد الفكر لمزيد من الإرادة. فكذلك من تفكر بالله تعالى وآياته أُعطي الإرادة لذلك والمنتجة لكل فعل يقرب إلى الله تعالى وليس فقط تعطي دافعاً للتفكر في الجانب الإلهي بل حتى تقوي الجانب العبادي ومن كان يستثقل العبادة فسوف يجد لذة فيها إذ بالفكر يكون القرب القلبي من المُتَفكَر به.
ثالثاً: إن للتفكر أثراً على القلب وما ينزل عليه وما يوصل إلى صفائه من كدورة الآثام وإزالة غبار الغفلة عنه، فبالفكر تنجي القلوب وتفتح حواسها، قال الإمام علي (عليه السلام ): (( من طالت فكرته حسُنت بصيرته )).
رابعاً: إن التفكر في الجانب الإلهي يؤدي إلى غلبة الجانب الإلهي على الجانب الإنساني المؤدي إلى طمس الصفات النفسية وإزالة الأوهام الاعتقادية الداعي إلى نزول المعارف الربانية، إذ التفكر دعاء لنزول العطاء الإلهي العقلي والمتمثل بالمعارف والعلوم، وليس أن الإنسان يصل بعقله إلى عالم الجبروت ويأخذ المعارف بقوة فكره واستقلالية عقله!! قطعاً لا.
وما للتفكر من أهمية كبرى نرى إن الله تعالى أعطى للمتفكرين وأولي الألباب من الحظوظ ما لم يعطها لغيرهم وأثنى عليهم أكثر من غيرهم، قال الإمام الصادق (عليه السلام ) : (( أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته )). واعلم، أن ليس من استمرار في رقي الإيمان دون دخول عبادة التفكر؛ لأنها من المراتب الأساسية في سلم العبادة.