قــاعـــدة التقييــض
المدرك: قوله تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف : ٣٦].
المفهوم: الإعشاء: هو التعامي والتغافل، وفي الآية ما كان بقصدٍ من الفرد، أي انه يريد أن يتعامى عن ذكر ربه لا عن قصور ولا جهل وإنما بتفضيل العمى على الهدى مع وجود الهدى قطعاً وتوفر كل أسبابه وليس من وجود مانع عنه. وبما أن الله تعالى: { سَرِيعُ الْحِسَابِ } [البقرة : ٢٠٢] فيدخل في نظامه الحساب الآني المتمثل بالحساب الدنيوي والمشتمل على مفردات عديدة من العقاب المعجل وكذا الثواب، ومن العقوبات المعجلة هي المترتبة على التغافل عن ذكر الله، ولما كان لكل ذنب عقوبة تناسبه من حيث حجم الذنب ومستوى نيته وقوة الإرادة لذلك الذنب أمست عقوبة التعامي والتغافل عن ذكر الذاكر جل جلاله هو تقييض شيطان يناسب مستوى تغافل الإنسان أو ما جاء به من الذنب ويكون ذلك الشيطان قريناً ملازماً ومصاحباً للمذنب، وهي من اشد العقوبات وطأة على الجانب الإيماني للإنسان؛ لأنه يؤدي إلى رفع المانع عن التسافل المؤدي إلى صعوبة في التقدم الإيماني والتقرب من الحق جل جلاله، ومن وجوه استحقاق المتغافل لهذا العقاب هو أنه تعامى عن ذكر الله في أوضح مواطن الذكر وأسهلها وهو الذكر حين وجود الرحمة لذلك أختار أسمه الرحمن دون غيره من الأسماء. فإن قدم الإنسان تلك المقدمة استحق تلك النتيجة حسب القاعدة.
التطبيق: اعلم إن مسألة التقييض هي قاعدة ثابتة في نظام الحساب الإلهي غير قابلة للخرق؛ وذلك لان مما وهب الحق تعالى لعباده صفة الالتفات سواء العقلي أو النفسي أو القلبي وليس للإنسان إلا أن يلتفت إلى ما حصر الحق تعالى قابلية الالتفات فيه وهما طريقان. أما طريق الحق والهداية والالتفات إلى نعم الله وعطائه ونقمه وبلائه ورؤية يد الحق فيها والمؤدي إجباراً إلى الذكر بالشكر أو الصبر أو غيرهما والموجب للتعامي والتغافل عن الجانب الأخر وهو جانب الظلمة والضلال. وأما أن يلتفت الإنسان إلى جانب الضلال والزيغ ويفضل الجانب النفسي على الجانب الإلهي والذي يؤدي إلى بعد كل ما يتعلق بجانب النور والإيمان وقرب كل ما يرتبط بجانب الفسق والضلال ومن متعلقات هذا الجانب بل أساسياته وثوابته هو الشيطان فلا مفر من ذلك، ألا ترى أنَّ من يختار الدنيا يحب أهل الدنيا تلقائياً ومن أراد الآخرة أحب أهل الآخرة تلقائياً، فهذا هو سر القاعدة. فبه تكون الغفلة عن ذكر الله داعية لنزول الشيطان أي إن لسان حال المتغافل يدعو لنزول الشيطان لأنه ناسبه في المستوى أي دخل نظام عمل الشياطين وتأثيرهم، إضافة إلى ذلك لا يوجد مانع ألهى لدفع الشيطان بل هناك إذن ألهى لعمل الشيطان واتصاله بذلك الأعمى قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف : ٢٧] أي إن الجاعل هو الله سبحانه بما كسبت يد العبد واستحق ذلك.
واعلم إن الشياطين وان خرجوا عن طاعة الله لكنهم لم يخرجوا من سلطانه وسطوت إرادته { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس : ٨٢]. مهما كان ذلك الأمر وأينما كان سواء أكان من عالم النور والهداية أم في عالم الظلمة والضلال ولا يوجد شيٌ خارج عن سلطانه وسيطرته ولا حتى المعدوم أنما الأمر إن الله تعالى يهيئ لكل إنسان ما يناسبه ويماثل ما بلغه من مستوى قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم : ٨٣] فتارة يرسل الشياطين لمن يناسبهم بالمستوى وتارة يرسل الملائكة لمن استحق وتناسب مستواه وذلك.
وكذلك يتحصل من الآية الجانب العكسي: وهو أن ذكر الله تعالى دافع للشيطان ومخلص من رجسه وكلما تصاعد ذكر الإنسان لربه تباعد عنه الشيطان بإذن الله وإرادته فكما أن الله تعالى هو الذي يرسل الشياطين كذلك هو الذي يبعدهم عن عباده قال تعالى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } [الأنفال : ١١] أي هو الذي ينزل عليكم من سماء الروح ماء التوبة ليطهركم من الذنوب ويذهب عنكم اثر الشيطان من التخبط في ظلام الأماني والخيال، فكما جعل أسباب لنزول الشيطان ومصاحبته للإنسان فإنه جعل أسباباً لزوال الشيطان عن الإنسان، فإن سبّب الإنسان الأسباب لنزول الشياطين عليه أعطاه الله ذلك {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ } [ابراهيم : ٣٤].
وهنالك جوانب أخرى لنزول الشياطين على الإنسان سواء النزول الاقتراني أو المؤقت لكنها منطوية تحت التغافل، من ذلك ما ورد عن الرسول الأعظم ) صلى الله عليه واله وسلم ) قال (( بينما موسى ( عليه السلام ) جالس إذ اقبل إبليس…. قال موسى: أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه. قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه )) [ميزان الحكمة / باب العجب / حديث ١١٨٤٦] وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (( مجالسة أهل الهوى مُسناة – مفسدة – للإيمان ومحضرة للشيطان )) [ميزان الحكمة / باب الشيطان /حديث ٩٤٠٩] وهذه الأعمال المذكورة هي نابعة عن التغافل.
ومما ينبغي ذكره هو أن الشياطين نوعان والآية شاملة لكلا النوعين وهما:
شياطين الجن: أي المستجنين والمحتجبين عن الأبصار والذين يوحون ويوسوسون في صدر الإنسان لتحفيزه على فعل ما يبعد عن الحق تعالى، لكن ليس لهم القدرة التأثيرية الكاملة على الإنسان إنما لهم التزيين فقط ولا يرتقون إلى أعلى من ذلك، وقوة الشياطين عكسية مع قوة الإيمان فكلما ازداد إيمان الفرد ضعف الصوت الشيطاني في باطنه وكلما ضعف الإيمان ازداد التأثير الشيطاني وضعفت مقاومته إذ ليس من مقاوم للشيطان غير الإيمان.
أما شياطين الإنس: فهم قرناء السوء من البشر الذين اتبعوا شياطين الجن وأهواء نفوسهم الأمارة بالسوء وانحط الجانب الإيماني لديهم واعوج الجانب الفطري عندهم حتى بلغوا مرتبة الشيطنة، فيوحون إلى من اتبعهم عمل السوء ويزينون له الفسوق والفجور وأثرهم لا يقل عن شياطين الجن إن لم يزد. وكذلك هم داخل إطار القاعدة. فعندما يبتعد الإنسان عن ذكر ربه وإيتاء ما أمره الله تعالى واجتناب ما نهاه فإذا ابتعد عن الذكر هيأ الله له من يصاحبه من شياطين الأنس فيكون رفيقه وصديقه إلى مماته أو تذكره فأن تذكر وأبصر رشده أزال الله عن ذلك القرين، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف : ٢٠١]. إذن كل من يتعامى عن ذكر الله في موطن الذكر يستحق أن يهيئ الله تعالى له شيطانً يلازمه، والتهيئة هي إزالة المانع ليس أكثر من ذلك وإلا فالشياطين قريبة من بني آدم لكن على قدر إيمان الإنسان يكون هنالك مانع إلهي عن تأثير الشياطين على ذلك الإنسان { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء : ٣٨].
ادام الله تعالى وجودكم المبارك.
ادام الله تعالى وجودك