قــاعــدة الظــن
المدرك: قوله تعالى: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [الفتح : ٦].
المفهوم: من خلال مدرك القاعدة يتبين إن الله تعالى جعل هنالك نتائج وجزاء على أساس الظن سواء الظن السيئ أو الظن الحسن به جل جلاله. فعدّ سوء الظن به من المعاصي المعنوية الموجبة لعقابه وحسن الظن من العبادات المعنوية القلبية والتي تستحق جزاءه سبحانه. ومن هنا نرى الترقي بالمؤمنين في مستويات العبادة فيجذبهم الحق تعالى إلى ساحته من خلال هذه المعاني ويغلق عليهم أبواب النزول بوعيده.
والظن: كما قال الراغب في مفرداته: هو اسم لما يحصل عن إمارة، ومتى قويت أدت إلى العلم ومتى ضعفت جداً لم يتجاوز حدها الوهم.
إذن هو حصول شيء في القلب تجاه أمر أو شيء معين سواء كان هذا الأمر داخلياً أو خارجياً. وما يحصل في القلب يتفاوت قوة وضعفاً على حسب تجريد النظرة والمنظور.
والوارد في الكتاب العزيز من الظن يقع على معنيين إجمالاً وهما: اليقين قال تعالى { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف : ٥٣] أي قطعوا يقيناً بأنهم داخلوها وذلك لرؤية المقدمات بوضوح الموصلة إلى السكينة القلبية بحصول النتيجة.
والمعنى الأخر: هو التوهم، قال تعالى عن لسان المنكرين { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف : ٦٦] وهذا من التوهم أو الإيهام النفسي لهؤلاء المنكرين، وما كانت مقدماته وهميه فنتائجه اشد وهماً. وبما إن للظن نتائج اعتقادية وفعلية تساهم بوصول الإنسان إلى الصلاح أو الفساد، فمن الظن ما يساهم بتطهير الفرد من اللوث والشوائب الدنيوية ويبعده عن أهوائه وهو حسن الظن ويضاده سوء الظن ولهما موردان:
المورد الأول: هو الخلق: فيتعامل الفرد بحسن ظنه أو سوئه مع أفراد جنسه وقد حث الإسلام على حسن الظن وجعله من اللوازم الإيمانية التصاعدية، وهذا القسم ليس محل كلامنا لخروجه عن مدرك القاعدة.
المورد الثاني: هو الظن بالله تعالى سواء ما كان منه السيئ او الحسن.
التطبيق: اعلم إن نيل رضوان الله تعالى والوصول إلى سبيل جنانه والتدرج في مراتب قربه لا يقتصر على العبادات الجسمانية بل الواجب أن يجمع الفرد بين العبادات الجسمانية والعبادات الاعتقادية. والمفروض أن تفتح العبادات الجسمانية باب العبادات الاعتقادية بالمعنى الأخص، ومنها التعامل مع الله سبحانه على حسب ما يبينه من صفاته والتي كان سبب اتصافه بها هو سد كل ما يحتاجه عباده وإلا فهو الغني عن صفاته وعن خلقه، ومن ذلك باب العطاء الظني الذي فتحه الله تعالى لنا بمنته وكرمه. وهو بناء وترتب الأثر الإلهي على ثقة الفرد المؤمن بالله تعالى فكل من حسن ظنَّه بربه في عطاء أو منع آتاه الله تعالى ذلك، وقد روى الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن الله تعالى قال : (( أنا عند ظن عبدي إن خيراً فخير وإن شراً فشر)) [الأوسط للطبراني] وعن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال: (( أحسنوا الظن بالله فان الله عز وجل يقول : أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خيراً فخير وان شراً فشر)) [ميزان الحكمة / باب الظن حديث ١١٥٨٠] فيبين لنا الحق تعالى من خلال هذه النصوص انه يجاري عبده في ظنه في كل شيء في العطاء وفي المنع في المغفرة وفي العذاب في القرب وفي الابتعاد في كل ما يريده الإنسان.
فمن كان ظنه وثقته بالله من انه سيغفر له ذنبه فان الله عند حسن ظنه، ومن ظن من الله عكس ذلك فهو ملاقيه، والظن هو سكون النفس على أمر ما. وهذا الباب هو رحمة فتحه الله تعالى للمبصرين والتزم به سبحانه قال الرسول الأعظم: (( والذي لا اله إلا هو، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاه فأحسنوا الظن بالله وارغبوا إليه )) [ميزان الحكمة / باب الظن حديث ١١٥٨١ ]. ومن قوله ( عليه السلام ): (( إن الله يستحي أن يكون عبده المؤمن…الخ )) يظهر إن هذا من ضمن أخلاق الله سبحانه، فهو التزام أخلاقي من جهة الله تعالى. فمن أراد شيئاً من ربه تعالى فله أن يطرق هذا الباب وليس عليه إلا أن يحسن الظن بربه تعالى من انه سوف يعطيه ما أراد ولا يرده خائباً. وليس في حسن الظن توهم إطلاقا؛ لان الله تعالى قادر وبيده خزائن كل شيء، ولا يحجب الإنسان عن عطاء ربه إلا سوء ظنه وغفلته، ومن ساء ظنه بالله فقد ظلم نفسه إذ حجبها عن نعمة أعدت لها وكذلك فقد ظلم ربه؛ لأنه نسب إليه ما ليس فيه قال الرسول ) صلى الله عليه واله وسلم ): (( أكبر الكبائر سوء الظن بالله )) [ميزان الحكمة / باب حسن الظن حديث ١١٥٨٥ ] وقال الأمير ( عليه السلام ): (( سوء الظن بالمحسن شر الإثم وأقبح الظلم )) [ميزان الحكمة / باب الظن حديث ١١٥٥٢ ].
ودافع الظن في نفس الإنسان متأتي من رسم صوره في الذهن لشخص ما، معتمدة قطعاً على مقدمات في تكوينها فعلية أو صفاتية فمن خلال ما يجد الإنسان من شخص ما من حسن أفعاله وطيب أخلاقه وكمال صفاته فيرسم صورة في قلبه عن ذلك الشخص، فان كانت هذه المقدمات ناقصة أدت إلى صورة ناقصة أدت إلى نتائج فعلية ناقصة وربما يقع الظلم في ذلك لهذا نرى من الشريعة المقدسة التأكيد على أن يجد المؤمن لأخيه العذر في كل أفعاله وأن يحمله على أكثر من محمل لكي لا يستقر قلبه على صورة سيئة لأخيه. وكذلك هو الحال في التعامل مع الحق جل جلاله. والمفروض بما إن الله سبحانه هو الخير المطلق والكمال المطلق فليس من فعل الهي يكون مؤسساً لسوء ظن العبد بربه بل لو تتبع الإنسان بعض أفعال الحق وأخلاقه لوجب عليه لزاماً حسن الظن بربه بل يقيناً لا يخالطه شك ولا شوب واقل ذلك إن الحق أعطاك ما تريد وكل ما تحتاج ولا يريد منك شيئاً إطلاقا حتى عبادتك لله هي لك وليست لله ولو علم الله إن لا فائدة لك في عبادته لما أوجبها عليك بل لما وهبها إليك، وحتى ما نتوهمه حين نشكر الله على نعمائه على إننا قدمنا الشكر لله تجاه تلك النعمة فهو وهم محض بدليل قوله: { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ } [لقمان : ١٢] أي إن هذا الشكر هو لك سواء جُعل ثواباً أو مرتبة أو غيرها، فلا يصل إلى الله تعالى شيء من شكرك ولا شيء من أفعالك بل أكثر من ذلك يقول الإمام الحسين في دعاءه (( وأنت الوهاب ثم لما وهبت لنا من المستقرضين )) [مفاتيح الجنان / دعاء الامام الحسين يوم عرفة ] لماذا يهبك عطاءً ثم يستقرضه منك؟ هل خزائنه نفدت! كلا، وإنما تقدست آلاؤه يطرق كل باب يجد فيه مصلحة لعباده، يعطيك ثم يستقرضه منك لأجل أن يكتب لك ثواب الصدقة ليس أكثر من ذلك، بل ما هو أكثر من ذلك ما أوضحه الإمام الصادق بما معناه: (( إن العبد ليذنب ذنباً فيُعجّل الله له العقوبة في الدنيا ثم يغفر له ذلك الذنب ويجعل العقوبة بلاءً فيعطيه جزاء ذلك البلاء! )) [كتاب التمحيص للإسكافي ] والأكبر من ذلك هو التسبيح الوارد عن الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ): (( سبحان من انعم وشكر )) [مهج الدعوات] فمن كانت هذه أخلاقه وصفاته فهل هنالك مجال لسوء الظن به؟! وإذا كان سوء الظن بمن هذه أخلاقه. فبمن نحسن الظن؟!.
إذن من يظن بالله تعالى ظن السوء يستحق أن تغلق عليه دائرة السوء ويتردى فيها دون خروج.
وظن السوء بالله تعالى هو نسبة كل ما لا يليق بالله إليه قال تعالى: { وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت : ٢٣].
هذا الظن ناتج من التهاون والاستخفاف وليس من الجهل إنما من تسويلات النفس الأمارة فنسبوا إلى الله ما لا يليق به وما لم يتصف به فكان هذا الظن السيئ هو الذي أهلكهم وجعلهم متردين في ظلمة نفوسهم ومفاسد معتقداتهم وبالتالي فهم من الخاسرين. وقد نسب الله تعالى الهلاك أو الإرداء إلى نفس الظن ولم ينسبه إلى نفسه والوجه في ذلك إن من يظن إن الله لا يعلم كل ما يفعل أو يظن إن الله لا يحاسب الإنسان على كل شيء سيكون ظنه هذا دافعاً له في ظلمات الفساد وذلك لارتفاع المانع؛ لان الحق تعالى عندما عرّف نفسه لعباده وعرّفهم انه عالم بكل شيء، أصبح ذلك البيان قيداً لتقيد النفس عن الولوج في المعاصي والتعدي على حدود الله تعالى – أو هكذا يفترض أن يكون – فان استطاعة النفس أن توهم الإنسان بفك ذلك القيد فسوف تتحرر فتسارع إلى التردي والفساد فتجعل صاحبها من الخاسرين.
وهناك بعض الأسباب المؤدية إلى حسن الظن ومنها:
أولاً: معرفة صفات الله سبحانه؛ إذ إن كل تعامل يعتمد على معرفة مسبقة، وبدون معرفة لصفات الله وأخلاقه التي يتعامل بها مع البشر سيؤدي إلى ظن ناقص أو إلى حكم ناقص فيحتاج الفرد أن يعرف شيئاً عن هذا الرب العظيم وبما إن الغاية هي التقرب إليه وجب عقلاً معرفة طرق التقرب سواء الفعلية أو الاعتقادية وهذه المعرفة تارة تؤخذ من النوازل الإلهية الخارجة كالكتاب الكريم أو رسل الرب العظيم الذي جعلهم الله تعالى خلفاء له في خلقه فهم ينقلون أوضح صورة معرفية لله سبحانه وتعالى وتارة تؤخذ من النوازل الداخلية الناتجة من التفكر بالآيات الإلهية وما ينزله الله على قلوب العباد.
ثانياً: اليقين بالله تعالى. وذلك أن يكون لدى الفرد المؤمن مستوى من اليقين والذي يأتي من معرفة الصفات. ومؤدّى هذا اليقين هو أن الله تعالى يحقق ظن عبده ولا يحجبه شيء عن ذلك.
ثالثاً: تعلق الإرادة بالله وحده. دون ضميمة إشراك غيره من الأطراف كمن يعتمد على الله في شيء ويحتمل أن يأتي من جهة أخرى فان مثل ذلك هو توزع الإرادة على عِدة متعلقات. فان توحدت الإرادة تعلّقاً بالله حسن ظن الإنسان بالله بسبب ما يراه من بوادر إلهية داعية ومحققة لحسن الظن وتثبيته.
رابعاً: عدم الالتفات إلى الخواطر النفسية والتي من شأنها أن تضعف حسن الظن والثقة بالله تعالى ومثالها أن الله لا يستجيب لك، أو من تكون أنت حتى يحقق الله لك ذلك، أو إن ذنوبك كثيرة والله لا يستجيب للمذنبين وغيرها.
خامساً: تجنب الاعتماد الكلي على الأسباب؛ لان ذلك يؤدي إلى الثقة العمياء بالأسباب وبالتالي يضعف جانب الثقة بالله تعالى، بل تعتاد النفس على التعامل مع الجهة الدنيا.
ادام الله عطاؤكم سماحة ابانا الطاهر❤️