قاعدة المحبة
مدرك القاعدة: قوله تعالى: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : ٣١].
المفهوم: إن ما أوجبه الله تعالى بعدله دون رحمته هو أن يعامل عباده كما يعاملونه، لكن ذلك على الوجه العام وأما إن تخللت رحمته عدله فيكون هنالك اختلاف في المعاملة.
ومن طرق المعاملة مع الحق تعالى والتي انزلها لنا كرماً منهُ ومنة، هي المحبة والتي قيدت على أساس التبادل، فحسب القاعدة من كان يحب الله تعالى وجبت محبة الله تعالى إليه، حسب نص الآية , وأما توسط الرسول ) صلى الله عليه واله وسلم ) بين محبة العبد للرب ومحبة الرب لعبده فذلك لديمومة المسير في طريق المحبة، وعلة ذلك إن الإنسان يجهل مقدمات محبة الله وأساليب ديمومة المحبة وطرق تقويتها ولمعرفة ذلك يجب أن تؤخذ ممن أحب الله على الحقيقة وأحبه الله على الحقيقة وليس من طريق أسنى واشرف من طريق حبيب الله الأكبر وهو الرسول الأعظم فليس من دليل أوضح واعرف بطريق المحبة من حبيب الله ) صلى الله عليه واله وسلم ) وليس قوله اتبعوني لأني مشرّع ورسول بل لأني حبيب واسبق منكم قدماً في طريق المحبة، وإلا فأصل القاعدة كل من أحب الله أحبه الله بالتبادل لكن دواعي تقوية المحبة ستكون مجهولة، قال الإمام علي ( عليه السلام ) عندما سأله إعرابي عن درجات المحبين، قال : (( أدنى درجاتهم من استصغر طاعته، واستعظم ذنبه وهو يظن أن ليس في الدارين مأخوذ غيره، فغشي على الإعرابي، فلما أفاق قال: هل درجة أعلى من ذلك؟ قال: نعم سبعون درجة )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣١٥٨].
فمحبة الله ليست متوقفة عند حدٍ بل لها من المراتب والمدارج الكثير إلى أن يسقط من قلب المرء كل محبوب ويتوحد في محبة الله تعالى ثم تمحّص تلك المحبة لتزداد عمقاً في قلبه.
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( فيما أوحى الله تعالى إلى موسى ( عليه السلام ) – كَذِبَ من زعم انه يحبني فإذا اجنّهُ الليل نام عني أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟! ها أنا ذا يابن عمران مُطّلع على أحبائي إذا جنهم الليل حوَّلتُ أبصارهم من قلوبهم ومثَّلتُ عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة ويكلموني عن الحضور )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣١٥٢] وقال الإمام علي ( عليه السلام ): (( حب الله نار لا يمر على شيء إلا احترق ونور الله لا يطلع على شيء إلا أضاء )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣١٥٤]. فالمتحصل من القاعدة إن من أحب الله أحبه الله على قدر تلك الدرجة وكلما تصاعد العبد بمحبة الله تعالى تصاعد الله بمحبته لعبده.
التطبيق: بما أن محبة الله سبحانه سواء أكانت من طرف العبد أم من جناب الحق، هي سعادة العبد وسر راحته الدنيوية والأخروية ومزيلة لكل الآلام الناتجة من التعلق بالجهة السفلى من الماديات والجسمانيات والتي من طبعها الزوال.
واعلم إن الرقي في سلَّم الإيمان هو ابتعاد عن عالم الماديات وبالتالي زوال تأثيرها، وشقاء الإنسان ليس إلا نزوله إلى عالم المادة وإلا فليس من شقاء في جنة المعنى، وبالتالي فإن طرق التعلق بالله تعالى وزيادة إرادته هي ضالة الإنسان وغاية الإيمان. لذلك وجب على كل مؤمن بل كل إنسان أن يكون له نصيب من محبة الله تعالى والتي ينبغي أن تكون هي الدافع والمحرك لأفعاله وتصرفاته على نحو الخصوص إن لم تكن على وجه العموم.
ولأجل نوال محبة الله تعالى للعبد يجب أن يبادر العبد إلى محبة مولاه؛ لانَّ خلو قلب المؤمن من محبة الله تعالى خراب ومضيعة للإيمان ومحبطة للإعمال فلا يحسبن الفرد إن محبة الله تعالى من باب المباحات أو المستحبات!! نعم المستويات العليا في المحبة ليست من الواجبات الشرعية إنما من الواجبات الإيمانية لكن المستويات الأولى من المحبة واجبة فلا يتعامى الإنسان عن ذلك قال الإمام الحسين ( عليه السلام ): (( عميت عين لا تراك عليها رقيباً, وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيباً )) [مفاتيح الجنان / دعاء الامام الحسين يوم عرفة ] بل العقل يحكم بأن من أعطاك دون أن ينتظر منك شيئاً، ونظر إلى مصلحتك قبل أن ينظر إلى مصلحته، وتغاضى عن أخطائك بحقه، وتواضع إليك، وكلمك من مستواك، وضحى من أجلك بأغلى ما عنده من أحبائه وأهله وأوليائه، وأبدع ما لم يكن موجودً لك، وسخر خلقه لخدمتك، واوجد خزائنه من أجلك، ورآك تعصيه وتعتدي على حدوده فسترك، وقدم لك ما لم يقدمه لك اقرب قريب واصدق صديق ولا أوفى حبيب، ألا يحكم العقل والقلب وكل جوارحه بوجوب محبته؟! وان كانت محبتك ليس هذا موضعها فأين تضعها؟ وما الفائدة منها؟ ولماذا وجدت؟ أوجدت من اجل أن نحب بها المال الذي لا نعرف ضره من نفعه؟ أم وجدت لحب العيال؟ الذين لا يفعلون لك شيئاً إلا لأجل مصلحتهم وان لم يجدوا منك شيئاً فدونك التراب! اجب وأنصف يرحمك الله، قارن وقس واستخرج وفكر فان وجدت في كل الوجود شيئاً يستحق المحبة غير الله فدونك هو وأنت غير ملام! ولكن أين ذا؟ ومتى كان؟ وما الذي فعله لك؟ وهل فعله بإرادته الخالصة أم بإرادة الله؟ أبقوته أم بقوة الله؟ أبفكره أم بإلهام الله؟. إذاً المقدمات الحقيقية والدواعي العقلائية لحب العبد لربه موجودة وموفورة وفوق حد الإحصاء-مع الالتفات-.
وهناك أبواب عديدة تطل وتصل بمن فتحها بتفكره إلى المحبة الحقة ومن تلك الأبواب:
الباب الأول: محبة الله بسبب نعمه: وذلك ضمن النظام القلبي للإنسان، وهو حب المرء لمن يحسن إليه قال الرسول الأعظم: (( جبلت القلوب على حب من أحسن اليها وبغض من اساء اليها )) [ميزان الحكمة / باب القلب / حديث ١٧٠٧٠] فلم نسمع إن إنساناً كره إنساناً لأنه أعطاه ما ينفعه! فهي جبلة وطبيعة تكوينية وليست اكتسابيه، وتزداد محبة الإنسان لغيره كلما زاد إحسان غيره اليه وكثر عطائه وقل أخذه، ولو تتبعنا إحسان من أحسن إلينا وإنعام من أنعم علينا لوجدنا الحق تعالى أول من أنعم وآخر من أتم، ولولا نعمته ما أنعم عليك منعم ولا أطعمك مُطعِم. وإن كل ما قدمه لك مخلوق أنت قادر عليه وكل ما قدمه لك الحق أنت عاجز عنه، وان كل ما قدمه لك مخلوق فله فيه شيءٌ من جلب منفعة أو دفع مضرة، وأما ما انعم الله به عليك فلا يترقب إزاءه شيئاً، بل كل من انعم عليك من الخلق استحق من الله العطاء الجزيل، وهذا كله بالنظر الاستقلالي وإلا ففي واقع النظر لا منعم إلا الله وان تغيرت الصور والأسباب.
فمن رأى نعم الله عليه وتوالي يديه لا يسعه إلا أن يحب الله تعالى لأجل ذلك.
الباب الثاني: محبة الله بسبب أفعاله: فلو جرد الإنسان نظره من غشاوة الأسباب فسيرى الأفعال الإلهية المتوالية عليه والمدركة له في كل حال من حفظه من الآفات وستره حين الذنوب وتيسر أموره ودفع البلاء عنه ورفع منزلته في الدنيا أو الآخرة وإعطائه الكثير بالقليل وتنبيهه حين الغفلة وتقديم الأصلح له حتى لو كان على حساب نظامه تعالى، بل كل ما يواجهك من فعل غيرك فإن الحق تعالى إن رأى فيه مصلحة لك أمضاه وأذن بصدوره وان لم يكن أبقاه وأوقف حدوثه. فلو رأى الإنسان ذلك فسيكون داعي المحبة أكبر وأسبابه أوفر وموانعه أصغر.
الباب الثالث: محبة الله تعالى بسبب صفاته وأخلاقه: من المعلوم إنَّ الصفات والأخلاق من الدواعي الكبرى للمحبة وعلى ذلك تقيس البشرية وتقاس. فمن نظر إلى أخلاق الله وصفاته سوف يجد مواطن المحبة والتي تجبر المرء على أن يضع محبته فيها؛ لأن أهلية الله للمحبة ليس لأنه يحيي ويميت ويعذب ويثيب بل لسمو أخلاقه والتي لو تخلق بها غيره لأستحق المحبة عدلاً ومن أبسط أخلاقه الظاهرة ما ورد بما معناه من أن العبد يتعدى حدود الله ويأتي بكل فاحشة ثم يكون قد كتب عليه البلاء فينظر الله إن كان في هذا البلاء فائدة لهذا العبد أمضاه وان لم تكن حجب ذلك البلاء عنه! فلا ينظر إلى إن هذا العبد خالف أو تعدى حدود الله فيجب أن انتقم منه! بل ينظر بعين الرأفة والعطف. وكذلك من أخلاقه ما يبينه الإمام السجاد ( عليه السلام ) في دعاءه لدفع كيد الأعداء إذ يقول: (( لم تمنعك اسأتي عن إتمام معروفك )) [الصحيفة السجادية] وتصوير ذلك، إن الحق تعالى ينعم على عبده، فيسيء العبد لله أثناء نزول النعمة فلا يقطع الله هذه النعمة بل يتممها عليه. فلا يقول اقطعوا النعمة عن هذا المسيء، أو إن هذا العبد لا يستحق هذه النعمة، بل أخلاقه أسمى وأعلى من ذلك. ومما أوضح الإمام السجاد ( عليه السلام ) كذلك في دعاء العيدين صفة التأني الإلهي ومدى طول الأناة لدى الحق على عباده ومعاصيهم حتى إن إمهاله لهم وعدم التعجيل لهم بالعقوبة ربما أدى بهم إلى التجرئ على الله جل جلاله وإسأت تقديره فيقول ( عليه السلام ):
(( حتى لقد غرتهم أناتك عن الرجوع وصدهم إمهالك عن النزوع )) [الصحيفة السجادية دعائه يوم الفطر].
فمعرفة الأخلاق والصفات الإلهية هو طريق حقيقي لمحبة الله تعالى، لمن كان له قلب سليم وفكر مستقيم. واعلم إن محبة الله لعباده سابقة على محبة العباد له ولاحقة بعد محبة العباد له سبحانه؛ لان الله تعالى أحب الإنسان قبل إيجاده، بل إنه تعالى فَضّلهُ على كثيرً ممن فضلنا على الله تعالى!.فأحب الله تعالى الإنسان وفضله على الولد ولو كان الله يحب الولد أكثر من العباد لأتخذ ولدا ونحن نحب أولادنا أكثر من الله إلا ما ندر، وكذلك فضله على الصاحبة ولو كان يحب الصاحبة أكثر من العباد لاتخذ صاحبةً ونحن نحب نساءنا أكثر من الله تعالى.
يبقى شيء وهو هل إن المحبة مقرونة بالأفعال؟.
للجواب على ذلك نقول: إن المحبة هي إرادة بشغف وتكون بانعقاد القلب على شيء ما، أما بسبب صورته أو فعله أو صفته، وذلك إذا وافق ما في الخارج المراد القلبي للإنسان. وتكون المحبة دافعاً للمحب لتقديم ما أراد المحبوب، فإن الإنسان إذا أحب شخصا ما قدم له أغلى ما عنده ـ على قدر المحبة ـ وكذلك فمن أحب الله تعالى أوجبت عليه محبته أن ينظر ما يريده الله منه ويقدمه له سواء الفعل أو الترك وأدنى ذلك ما بينه أمير المؤمنين إذ يقول: (( من أحب شيئاً لهج بذكره )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣٠٧٣] وهو ليس بخارج عن طبيعة الإنسان؛ لأنه إن أحب أمراً أكثر الحديث عنه واظهر محاسنه، فتكون المحبة دافعة إلى العمل.
واعلم إن العمل النابع من الحب هو أخلص وأنقى وارفع وأزكى أنواع العمل؛ لأنه مجرد من المصالح القذرة بل إن العمل بسبب المحبة اشد قبولاً وأقوى سلطاناً لخلوه من مدنيات الأعمال، وقد جاء في صحف إدريس ( عليه السلام ): (( طوبى لقومٍ عبدوني حباً واتخذوني إلها ورباً، سهروا الليل ودأبوا النهار طلباً لوجهي من غير رهبة ولا رغبة ولا لنارٍ ولا لجنة بل للمحبة الصحيحة والإرادة الصريحة والانقطاع عن الكل إليَّ )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣١٣٢].
وان صاحب هذا العمل هو في أرقى مستويات الإيمان حيث صدرت كل عباداته بأخلص النوايا وبالتالي من أطهر القلوب، ولا تتأتى هذه المنزلة إلا بتجاوز المنازل السابقة عليها. ولا يتقيد العمل بدافع المحبة على المستحبات وما يتطوع به الإنسان لله بل يبدأ من الواجبات فبدل أن يأتي بها الفرد بدافع الطمع بما عند الله أو الطمع بتجنب عذاب الله بل بدافع المحبة لله تعالى فيتجرد حينئذ من المصالح الدنيوية والأخروية.
هذا وان للمحبين صفات اكتسبوها من محبتهم لله تعالى فمنها:
كثرة ذكرهم لمحبوبهم باللسان والقلب وعبادته والتفكر به والنظر إليه في كل فعل، وإيثاره حضرة الحق على إرادة النفوس وأهوائها وتقديم ما يريد المحبوب وان عارض إرادة غيره قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) (( دليل الحب إيثار المحبوب على ما سواه )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣٠٧٥] فلا ينظر إلا إلى ما يقربه من محبوبه وان أدى إلى التضحية بالخلق أجمعين. كذلك صفات المحب على الحقيقة هو عدم السخط والجزع من المحبوب مهما فعل به؛ لأنه يرى كل ما يصدر من محبوبه جميلاً وكل ما دون محبوبه لا قيمة له، ومن اللطيف ما ورد أن موسى ( عليه السلام ) سأل الله تعالى في مناجاته، قال: (( أي ربِ، أي خلق أحب إليك؟ قال: مَن إذا أخذت حبيبه سالمني )) [ميزان الحكمة / باب المحبة / حديث ٣١١٧] أي لا يجزع ولا يسخط على الله تعالى وان جرده من متعلقاته الدنيوية وذلك إن كان حب الله أقوى في قلبه من سواه، وبذلك يبادله الله المحبة بل يكون من أحب الخلق إليه.
ومن مصاديق ذلك ما نقله لنا التأريخ عن زينب بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عندما سألها عبيد الله ابن زياد كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟! قالت:
(( ما رأيت إلا جميلاً )) [مقتل الامام الحسين ع للسيد عبد الرزاق المقرم ] فهذه صفات المحب الحقيقي. بل لا يبلغ الإنسان خالص المحبة إلا أن يكونَ الله تعالى أعلى محبوباته قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) (( لا يَمحصُ رجل الإيمان بالله حتى يكون الله أحب إليه من نفسه وأبيه وأمه وولده وأهله وماله ومن الناس كلهم )) ومن كان هذا حاله مع الله بادله الله المحبة نفسها وأحبه أكثر من كل خلقه وأعطاهُ لا بعدله ولا برحمته ولا بكرمه بل بمحبته.