قــاعــدة المحــو
المدرك:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ } [هود : ١١٤].
المفهوم: قلنا إن للأفعال أثراً في الإنسان فمنها ما يقتصر أثره عليه ومنها ما يتعداه إلى الخارج. وذكرنا فيما سبق إن الأفعال هي النوايا.
ومما أوجده الله تعالى من التأثير في عالم الأفعال هو تأثير الأفعال على بعضها. فمن الأفعال ما تكون له القدرة والهيمنة على غيره من الأفعال وذلك يعود إلى أساسه؛ لان كل هيمنة في الأرض أو في السماء لكل مخلوق مستمدة من اسمه المهيمن، فكلما قرب الفعل من هذه الصفة اكتسب الهيمنة والسيطرة على ما دونه من الأفعال وبما إن النظام العام ونظام الأفعال خصوصاً مؤسس على أساس الخير يكون الفعل الخير مؤثراً في السيئ ولا عكس، قال تعالى: { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا } [الأنعام : ١٦٠]. هذا ليس استنباط عقلي ربما يصح أو يخطأ إنما هي قاعدة أثبتها في نظامه وبينها في كتابه، وليس موضوع قاعدتنا تولد الحسنات إنما هيمنة الحسنات على السيئات من خلال السلطان الذي وهبه الله تعالى للحسنات. فمدرك القاعدة لا يحتاج كثيراً من البيان إنما أراد الحق تعالى من كلامه أن يبين لنا إن هنالك قواعد في الأفعال كما إن هنالك قواعد في الصفات أو المعتقدات. منها ما أعطاه الحق تعالى بسعة رحمته من القابلية للحسنة على محو وإذهاب السيئة وهو يعود لما أركز الحق تعالى من صفة الزوال في الجانب الباطل، قال تعالى: { إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء : ٨١] أي ليس الزوال عرضاً يعرض على الباطل وإنما هو من خصائصه الذاتية، فكل ما يأتي من الباطل وكل ما يؤدي إليه يحمل تلك الخاصية وهي الزوال. وكذلك فان الأعمال الصالحة لها خاصية البقاء في الدائرة وذلك لامتدادها للخير المطلق، فأخذت صفة البقاء من أصلها لهذا أصبحت من خصائص الحسنات هي الهيمنة ومحو السيئات.
التطبيق: إن الحق تعالى عندما تفضل على عباده بإنزال رحمة محو السيئات بالحسنات كانت الإرادة من ذلك هو فتح باب من أبواب تسقيط التبعات المُبعدة عنه سبحانه والمعوقة للمسير في طريقه وهو الإسلام والتدرج بدرجاته. إذ من المعلوم أن الأفعال السيئة تترك أثراً في قلب الإنسان من الصعب إزالته وكذلك تُهيأ الإنسان للنزول إلى مادون ذلك من الأفعال وتعطيه القابلية للاكتساب من الجهة السفلى وتكسر لديه رهبة الإقدام على السيئات. فجعل الحق تعالى هذه القاعدة والتزم بها وبينها للعباد.
أما كيفية إزالة الحسنة للسيئة فنراه من وجوه:
الوجه الأول: إن الأعمال الحسنة تبعد السيئات عن الإنسان وتذهب بها إلى مكان بعيد، والسيئات كلُّ ما يسوء الإنسان من المصائب والبلايا ونقص الأرزاق ونحوه. فيكون ما يأتي به المرء من الحسنات مبعدة لهذه السيئات عن ساحته وشافعة له في محوها من لوحه.
الوجه الثاني: هو في كون الأعمال الحسنة مبعدة للأعمال السيئة، وبيان ذلك: إن النفس موجودة في كل مستويات الإنسان ـ وان اختلفت قوة وضعفاً. وعليه تكون السيئات قريبة دائماً من الإنسان لوجود النفس ودوافعها وإيحاءاتها إلى الإنسان بفعل السوء ولوجود الدنيا ومغرياتها والتزيين الشيطاني فيكون الإنسان بتماس دائم مع أسباب السيئات ومولداتها، فيكون عمل الحسنات مبعداً لهذه السيئات عن قلب الإنسان ومبعداً للرغبة فيها، في هذا المستوى فقط لا في جميع المستويات، نعم لكل مستوى حسناته وسيئاته.
الوجه الثالث: إن الحسنات من الإعمال لها القابلية على محو السيئات التي وقعت من الإنسان فعلاً، فعندما يأتي بالحسنة تمحو السيئة التي ارتكبها قبل الحسنة، قال الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ): (( واتبع الحسنة السيئة تمحوها )) [سنن الترمذي]. وهذا كما قلنا في البدء مما أعطاه الله تعالى للحسنات من خصائص. فتكون الحسنة اللاحقة للسيئة غافرة لها.
الوجه الرابع: إن الحسنات يذهبن أثر السيئات. وذلك إن السيئة إذا ارتُكبت خلّفت أثراً معنوياً وهذا الأثر يكون حاجباً عن التقدم في سلم الكمال، وبعض مراتب غفران الذنب لا يشمل إزالة أثره المعنوي بل إقالة المذنب من العقاب المادي المترتب عليه. لكن بعض الأعمال الحسنة لها من القابلية لإزالة الأثر المعنوي للذنب وهي ما تسمى في علم الإيمان بأفعال التطهير أي من خصائصها تطهير القلب من أثر الذنب.
الوجه الخامس: إن الحسنات يذهبن أساس السيئات. وبيان ذلك إن الإنسان إذا توجه إلى شيء قويت إرادته إليه وضعفت عن الجانب المقابل. وكذلك من نعم الله تعالى إن القيام بالحسنات يكون مضعفاً لإرادة السيئات ومقوياً لإرادة الحسنات لأنه حسب النظام من قام بشيء استحق الذي يليه. فيكون البعد عن الشوق للسيئات وإرادتها بتضعيف وإذهاب الحسنات لإرادة السيئات.
الوجه السادس: أي يذهبن الحسنات بالأمراض النفسية من الرياء والتكبر وحب الذات وغيرها فتكون هذه الحسنات دافعاً لإزالة السيئات الصفاتية الموجودة في مكمن الإنسان؛ فالأفعال الحسنة ممحصة لما في صدر الإنسان فتُذهب بالسيئات من صدره وتبقي الحسنات.
فإذا عرفنا ذلك يكون التطبيق منه، على الإنسان الذي يسعى إلى الرضوان أن لا يهمل كل تقصير أو ذنب أو خطيئة بما أن الله تعالى فتح له هذا الباب فيجب عليه أن لا يترك له ذنباً في يومه بمعنى أن يراقب نفسه كل يوم باستمرار فان صدرت منه سيئة أردفها بفعل حسن أو أكثر لإزالة تلك السيئة وإزالة آثارها بحيث ينتهي يومه وما من سيئة إلا وأعقبها حسنة عندئذ يكون يومه له لا عليه. قال الإمام الصادق ( عليه السلام ): (( ليس شيء اشد طلباً وأسرع دركاً للخطيئة من الحسنة، أما إنها لتدرك الذنب العظيم القديم المنسي عند صاحبه فتحطه وتسقطه وتذهب به بعد إثباته )) [ مجمع البيان / ج ٥ ].