الباب التاسع

الاخـتبـــــار

الاختبار 1

   إن من أهم الجوانب والتي لم يلتفت إليها إلا القليل وأسدلَ عليها الآخرون حجاب الغفلة , بل حتى الملتفت من عقلائهم إلى ذلك إنما التفاته إلى جانب واحد دون جوانبه الأخرى . وهو جانب الاختبار.

    والاختبار هو من ضمن المعتقدات الإسلامية التي طُمست أو أوشكت على الانطماس , علما أن الحق ثبت هذا الجانب مع ثبات النبوة ، وحتى النبوات السابقة على الإسلام أكدت على هذا المفهوم ، ولكن عندما انتهت النبوة انتهت معها بعض المعتقدات المهمة والتي كانت من ثوابت الديانات عامة والإسلام خاصة. 

     وكل ذلك يعود إلى الانحراف الذي تلى عصر الرسالات , علما أن الاختبار هو من أكثر الطرق التكميلية التي تعرضت وما تزال تتعرض لها البشرية على كل الأصعدة الاعتقادية وفي كل المراتب.

     فقد مرت البشرية باختبارات عامة وأخرى خاصة أدت ـ بما أُودع فيهاـ إلى رقي البشرية ووصولها إلى ما نراه من جوانب الاستعداد والتقبل المستفاد من توسيع الإدراك الذي فيه يكون صقل النفس وتنظيم الفكر , وتوجيهه إلى ما يريد الحق لعباده من طرق الكمال العقلي , وغير ذلك من الجوانب الأخرى سواء أكان بعلم البشرية أم من دون علمٍ منهم.

    فكان لهذا الأسلوب الذي اتخذه الحق وسار عليه أولياءه الأثر الأكبر في تحريك البشرية وعدم توقفها على مستوى واحد من تكاملها .

     والاختبار : هو فعل صادر من جهة عليا سواء جهة الحق أو الرسول أو الولي أو الشيخ ، يوجب ردوداً لذلك الفعل من المقابل صادر عن الحركة الباطنية الناتجة من الفعل الأول وعلى المستويات الأربعة للإنسان مما يؤدي لوقوع فعل داخل إطار الخطين , وكلاهما عدم توقف . وهذا ما كان يقوم به أئمتنا ( ع ) مع شيعتهم وغير شيعتهم وما قام به كل الأنبياء والأولياء .

     وقد بيَّن الحق ما لهذا هذا الأسلوب من دور فعّال في تكميل الخط التصاعدي ، ودور كبير في تمييز النوايا والقابليات المقررة للاستحقاق .  قال تعالى : { الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣)} [العنكبوت : ١ – ٣] آمنا هذا على مستوى المؤمنين , فقوله لقد فتنا الذين من قبلهم , بمعنى إن الاختبار هو سنة الله التي لا مناص منها والتي كتبها الحق على المؤمنين في الماضي والحاضر، والمستقبل ضرورةً.

   ففي هذا الأسلوب يبين الحق للمؤمن حقيقة إيمانه الراسخ في قلبه وما هو مقدار ذلك الإيمان , وليس أن الحق لا يعلم إلا بالاختبار كما هو المُتَوَهم من ظاهر الآية ، نعم يكون العلم الثاني أي العلم بالشيء بعد الوقوع لأن علم ما قبل الوقوع متحقق . إنما يقر الحق إيمانك في قلبك بالاختبار بعد تجاوز هذه الفتنة . أضف إلى ذلك إن وجود { الم } يدل على أهمية المطلب لأنها من الآيات التي يصعب فهمها ففي غموضها تكون موجبة للالتفات لما بعدها باستعدادٍ معتدٍ به مأخوذ من الحَيرة الجزئية المستفادة من غموض الآية السابقة.

    وقوله الآخر وهو على وجه العموم ، واستطيع القول إن عموميته مطلقة, قوله : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(٢) } [الملك : ١ – ٢] حيث أن الاختبار له طرفان ويكون بالتمحيص العام.

    والعزيز هنا معناه , انه جل ذكره لا يَعُز عليه معرفتكم بدون الاختبار . إنما تلازم معرفتهِ مع الاختبار من اجل إفادة الإنسان بهذا الأسلوب والذي يعجز في مورده غيره من الأساليب ، كما سوف نبين , وأيضا من اجل عدم نسبة العبث للحق , لأننا نعلم أن الحق لا يفعل أي فعل دون أن تكون فيه مصلحة للخلق , فمعرفة الحق لذلك معرفةٌ مجردة ليس فيها أي مصلحة للإنسان , لذلك استلزم أن تكون معرفته بك بأسلوب يعود بالنفع عليك وهذا هو عين الجود والرحمة!.

    ومن مراتب الاختبار الأولى في الظاهر هي مرتبة التمييز ، والمقصود منه التمييز السطحي وهو تمييز المؤمن عن غيره ، والتي تكون غالبا عامة أي تشمل مجتمعاً كاملاً ، وتكون عبارة عن مجموعة اختبارات مجتمعة ذات مستوى واحدٍ ، وقد رأينا من هذه الاختبارات والتي ميزت المؤمن ممن يدعي الإيمان , حيث أن هناك من يعبد الله على حرف ويُعد مؤمناً.

    ومن المعلوم إن نتيجة الاختبار على شكلين لا ثالث لهما إما النجاح وإما الفشل , وحتى الفشل الناتج من الاختبار لا يخلو من فائدة ، وإن كان مرجوحا وغير مطلوب لكن يبين الحق من خلاله لعبده مدى قلة إيمانه واحتياجه إلى إيمان أكثر ، فيكسر حجاب التوهيم النفسي لينظر نظرة من خارج الإطار الوهمي , ولان النفس تسكن عالم الوهم فإنها توهم الإنسان بالإيمان والاكتفاء بالفعل الظاهري حيث الفعل الظاهري له هو الإيمان لكن باطنه النفس الأمارة  ، والتي تحجبه عن أمرين هما معرفة حقيقة إيمانه وسماع صوت الباطن , فليس من أسلوب يرى به الإنسان حقيقة إيمانه ومرتبة يقينه أفضل من الاختبار.

    فوقوع الاختبار يبين للإنسان مدى مطابقة باطنه لظاهره أو مناقضته, وليس معنى الاختبار في هذه المرحلة وهي المرحلة الأولى أن يبين الحق الإنسان لغيره , نعم تقتضي المصلحة أحياناً أن يفضح الحق إنساناً ما إذا كانت عدم معرفة الشخص توجب إضلال أناس آخرين وفي عين الوقت هي كشف حقيقة هذا الإنسان لذاته.

    وكذلك فالفوز بالنعيم الجسماني والنفسي والذي هو غاية أصحاب الظاهر يحتاج إلى استعداد لأداء واجباته وإلى صفاء في النية وإرادة لعباداته والى إزالة بعض الموانع وشيء قليل من التجرد وغيرها من المحفزات ، والاختبار احد أساليب إدراك هذه الغايات , ومن فوائده في الظاهر :

    أولاً : إن الاختبار يُنتج أرقى أنواع الاستعداد ، لذلك أوجده الحق في كل المستويات الظاهرية والباطنية , إي ما من درجةٍ أو مقامٍ إلا ويحوي على اختبار معين , بل مجموعة من الاختبارات.

    ثانياً : إن الدخول في الاختبار يؤدي إلى الخروج من بعض المستويات الوهمية التي يعيشها الإنسان في المستوى الأول.

    ثالثاً : يبين الله تعالى للإنسان من خلال الاختبار مدى سعة استعداده وعدم وجود الصعوبة المرسومة في خياله عند أي فعل , لان النفس دائما تظلم استعداد الإنسان ببيانها لعدم القدرة على بعض الأفعال الكمالية وتبعد عنه بعض الدرجات الظاهرية والباطنية بحجة عدم القدرة على الوصول إليها.

    رابعاً : يكون الاختبار أحيانا إثبات حجة على بعض الناس , ولا اعني بإثبات الحجة على الإنسان لكي يدخلهُ الله في جهنم !!  وإنما إثبات حجة على العقل لقطع كل التبريرات النفسية مما يؤدي إلى تقوية الإرادة ووقوع النتيجة المطلوبة , وهذه الاختبارات تكون في مستوى الظاهر وباطنه ( اعني باطن الظاهر ).

    أما في الباطن فتكون الاختبارات أكثر وأدق وأصعب لان الإنسان كلما ترقى كثرت اختباراته ، لأنها في الباطن نوع من أنواع الكمال, فإما كمال كلي بمعنى مسير في الكمال العام أو إتمام لكمال مقام معين وهنا تكون على أشكال منها :

    الشكل الأول : الاختبار المستفاد منه بتجاوزه بالصورة المطلوبة , ومنه :

    أولاً :الاختبار المؤدي إلى السيطرة على مستوى من مستويات النفس مما يؤدي بتجاوزه إلى السمو في عالم النفس.

    ثانياً :الاختبار في مقامات القلب , فان الاختبارات في هذه المرحلة تكون اغلبها من اجل دخول المقام أو إتمامه قبل تجاوزه , فيُعَّرض المريد إلى اختبارات على مستوى المقام وعلى قدر استعداده.

    ثالثاً : إن بعض أصحاب الباطن عندما يُكشف له مقام معين يحاول أن يتجاوزه دون المعايشة الروحية له وأخذ الكمالات المطلوبة منه , فيعرّض لاختبارات لأجل أن يعايش المقام معايشة يصل بها إلى حق اليقين , فان لم يعايشه فذاك هو الفشل المؤدي إلى نقصان حظاً من كماله , وهذا الشكل من الاختبار هو من المستوى الأول في الباطن.

    الشكل الثاني : هو الذي يبين الحق من خلاله النقص الذي يجب على المريد سدّه ، وهذا لا يتبين إلا بعدم تجاوز الاختبار ! ومنه :

    أولاً : يبين للإنسان الأمراض الموجودة في نفسه ، أي يَوجه له اختباراً على مستوى القوة الغضبية مثلا فعند الفشل وهو المؤكد يتبين له عدم سيطرتهِ على القوة الغضبية.

    ثانياً : في التوهم بدخول مقام  معين , فأحياناً يتوهم الإنسان بدخول مقام معين ويعمل بنفس إعمال من كان في هذا المقام , وذلك لمرور حال عليه أو عمل يشابه أعمال ذلك المقام , فعند الاختبار والفشل به يتبين له عدم دخوله لهذا المقام إطلاقاً ( هذا ما وقع فيه الكثير وخاصة من لا شيخ له ) وغيرها من الاختبارات . ففي هذا الشكل لا يتحقق تجاوز الاختبار ولو رأى الإنسان المستحق لهذا الشكل من الاختبار من انه تجاوزه , فهذا دليل على قوة حجاب الغفلة !.

    الشكل الثالث : وهو من الاختبارات التي لا يراد منه تجاوزه أو عدمه !. إنما المراد منه معرفة وجوده فقط . أي يواجه الإنسان اختباراً من اجل أن يعلم انه مُعّرض للاختبارات , ولو أدرك الإنسان أن هناك اختبارات متعرض لها فستنتج له عدة فوائد منها :

    الفائدة الأولى : إن الاعتقاد بوجود الاختبار هو نوع من أنواع الصلة مع الحق تعالى , وذلك إن من اعتقد بوجود الاختبار الإلهي وإنه معرّض له في كل وقت سيكون ملتفتاً إلى جهة الحق . أي أن الحق متصل معه دائماً , وفي كل وقت هو معرّض لاختبار من ناحية هذه الصلة فتوجب الخوف من الله سبحانه , وهو خوف الفشل في الاختبارات الإلهية.

    الفائدة الثانية : إن وجود الاختبار يجعل الإنسان في عدم استقرار داخلي , وفائدة عدم الاستقرار هي عدم ثبوت النفس وفرض سيطرتها على جوانب الإنسان.

    الفائدة الثالثة : إن الاعتقاد بالاختبار يجعل الإنسان دوماً في محاولة اتخاذ الطريق الأصلح خوفا من الفشل في الاختبار , لان من اعتقد أن في أمر معينٍ اختباراً ، فسوف يحرص على تجاوز ذلك الاختبار.

    الفائدة الرابعة : تقليل الالتفات إلى الدنيا , وذلك إن من اعتقد بالاختبار سوف تكون له نظرة أخرى للأمور مما يؤدي إلى التجرد من النظرة الدنيوية لأكثر أموره.

     فهذه جوانب من الاختبار في الباطن , وهناك جوانب أخرى سنذكرها في باب آخر إذا أراد الحق.

   فإهمال جانب الاختبار هو تعطيل لجانب من جوانب الدين في الظاهر  وإغلاق لبعض أبواب الباطن.

 

 ( ونسأله الحذر معه )

 

اترك تعليقاً