الباب الثالث والعشرون

الحفــاظ على الظــاهر

الحفاظ على الظاهر 1

    إن الظاهر بكل مراتبه الكمالية التي كانت من وضع الحق أو الإنسان هو مرحلة من مراحل الكمال العام الموصل للكمال الخاص. وان كان أثره بسيطاً في ذلك ، ولكن وضع الحق الظاهر ليكون قاعدة ينطلق الإنسان منها إلى هدفه الحق الذي وجد من أجله ، نعم يستطيع المريد للحق الدخول إليه من حيث يشاء ، فوجود الحق لا يقتصر على الظاهر الذي وضعه الحق بل يستطيع أن يضع له ظاهراً ويكون انطلاقه منه ، ومن المؤكد أنه لا يأتي به من خارج الدائرة ، لكن الصعوبة تكمن بجهله بالمراد الأول ، وافتقاره للمعرفة اليقينية . هذا بالنسبة لأصل الدخول.

      أما بعد الدخول للباطن من هذه الظواهر ، فيجب أن تبقى هذه الظواهر ملازمة للإنسان . وبها يصبح الإنسان محافظاً على باطنه، وهو قول الرسول الأعظم )   صلى الله عليه وآله (: ( كونوا مع الناس ولا تكونوا منهم ) أي أن الإيمان المطلوب هو أن يكون ظاهرك كظاهر الناس ، والمقصود من الناس هنا هم أصحاب الغفلة ، الذين لهم ظاهر وليس لهم باطن. فكونوا معهم ، أي في ظاهرهم لأن ظاهرهم هو المطلوب في مراتب الظاهر ، ولا تكونوا منهم إذ ليس لهم باطن. والنتيجة من ذلك تحقق التكامل الظاهري الباطني. فيجب أن يكون لصاحب الظاهر باطن ولصاحب الباطن ظاهر ، فالقشر دون اللب لا ينفع شيئاً ، واللب دون القشر لا يوصل إلى تحقيق الغاية.

     أما الشق الأول فهو مفروغ منه ، فيكون الكلام عن الشق الثاني . وهو إن الإنسان في الباطن يجب أن يكون له ظاهر يعيش فيه مع المجتمع وهذا الظاهر يكون على ثلاثة أقسام :

  القسم الأول : هو الظاهر التشريعي. وهو ما شرعه الحق من قوانين لتنظم حياة الفرد والمجتمع من محرمات وواجبات وغيرها , فيلتزم أصحاب الباطن بالشريعة الظاهرية حيث وجوبها ، وان كانت لا تزيد في كمالهم شيئا بعد بلوغ المراتب العليا. فبعض أصحاب الباطن عند وصولهم اسقطوا شيء من الظاهر التشريعي ، وحجتهم في ذلك أنهم أخذوا الكمال المطلوب من ذلك الظاهر ، أو كُشف لهم عن حقيقة ذلك الظاهر الكمالية أو غيرها من الأسباب الباطنية ، وقد وقع في ذلك الخطأ الكثير من أصحاب الباطن في الطرق الباطنية الأخرى حيث مشقة الجمع . والواقع أن ما يكشف الحق لعباده هو حق ، لكن الحق يوجب الحفاظ على الظاهر لا من اجل الفائدة الكمالية فيه ، لأن المريد إذا بلغ السفر الثاني استغنى عن الخلق بكل أقسامه ، ولكن من اجل بقاء الظاهر في المجتمع حيث هو المنطلق للغاية. كما أنك وصلت إلى الباطن من هذا الطريق كذلك غيرك يجب أن يصلوا من هذا الطريق لأنه الأقرب . وكذلك لا تستطيع أن تعيش مع الناس بباطنك . أضاف إلى ذلك أن من يصل إلى مراتب سامية في الإيمان لا يستطيع أن يكلف الناس بتكليفه ، بـل لكلٍ تكليفه : { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء : ٢٠] فيجب على أصحاب الباطن المحافظة على الظاهر التشريعي ، ويستطيع الإنسان أن يعبد الحق على أكثر من مستوى ! كما فعل الأئمة الأطهار) عليهم السلام ( أي يعبد الحق على مستوى الظاهر ويعبده على مستوى الباطن وغيرها من المستويات التي يبلغها ، وهذا أكمل للإنسان ، ولكي لا يخرج عن إطار الإنسانية الموضوع له ، كل ما في الأمر هو أن لا تكون نيته التكامل من الصلاة بل الحفاظ على المستوى التشريعي.

   واعلم إن الإنسان إذا وصل إلى الحقيقة يتبدل وجوب الترك والفعل من وجوب تكليفي يُعطي كمالاً معيناً للإنسان إلى وجوب الحفاظ على الظاهر ، أي لم يتغير الظاهر إنما التغيير في النظر إلى الفائدة فقط . وهذا موجود بكثرة لدى أصحاب الظاهر فمنهم من يوجب عبادة مستحبة على نفسه ويلتزم بها كالتزامه بالواجبة أي يبدل نيته من الاستحباب إلى الوجوب ( لا أعني النية اللسانية أو القلبية بل النية الحالية ) وهذا ما كان من الاستحقاق العالي ، والإنسان كلما قُذف في قلبه من نور الحق أوجب على نفسه بعض العبادات ذات الكمال , أو حرم على نفسه بعض الأشياء والأمور ، ولكنه غافل ذهنياً عن ذلك . فأصحاب الليل أعني الذين يقيمون الليل ويعطوه حقه قد أوجبوا على أنفسهم قيام الليل وإذا ما قصروا فيه يشعرون شعور من ارتكب ذنباً ، فقد نقلوا أهميته من الاستحباب إلى الوجوب وهم لا يشعرون ، ويكون الحق أقرب إليهم في هذه العبادة حتى من الصلاة الواجبة أحياناً ، فترى منهم نوع من التجرد خلال هذه اللحظات والخشوع ، ويكلمون الله وكأنهم يرونه ، على عكس ما هم عليه عند الواجب. وان كان هذا فيه نقص ، لكنه أكثر كمالاًً من غيره ، أي من الذين لا يقيمون الليل ، أو يقيمونه وهم ساهون.

   القسم الثاني : وهو الظاهر الأخلاقي . فيجب الالتزام بالأخلاق وأعني بها المرحلة الأولى منه ، أي الآداب على وجه الخصوص لأن المفروض أن المرحلة الثانية أصبحت ملكة ، فيلتزم المريد بالأخلاق حتى بعد الوصول . لأن الأخلاق ذات طابع كمالي في المسير فيكتسب الإنسان كمال هذه الأخلاق ثم يتجاوزها إلى مرحلة أخرى. ولكن عند انتهاء الفائدة الكمالية يتركها بعض أصحاب الباطن. والواجب على الإنسان أن يُبقي الأخلاق في كل تعاملاته لأنها من ظواهر الباطن أي إنها بوابة الباطن لأهل الظاهر ، وأصحاب الغفلة لا يرون إلا الظاهر ، فمن كان ظاهره أنيقاً حكموا بصحته لافتقارهم لمعرفة البواطن ، نعم لا يجب الحفاظ على هذا المستوى من الظاهر بالوجوب الباطني المعطي للكمال الصاب في السفر الثاني ولكن هو من اجل المصلحة العامة. ويساعد من يبتغي دخول السفر الرابع.

   القسم الثالث : الظاهر الاجتماعي . هو أن يلتزم المريد أو الواصل بالظاهر الاجتماعي ولا يخرج عن إطاره ، لكي يتسنى له البقاء في المجتمع ولكي لا يُعزل عنه ، نعم العزلة مطلوبة في الطريق لكنها مؤقتة . وان يتحلى بالمجاراة بالنزول إلى مستوى المجتمع ، والتي هي المنقذ الوحيد للغريب ، وطالب الحق غريب كيفما كان وأينما حلّ. إذ ليس له إلا الحق والحق غريب !.
   فليس من الصحيح إهمال الجانب الاجتماعي وان كان يرى المريد العكس ، نعم التعمق مرجوح لكن بالمقدار الذي تعيش به مع الناس. فيجب عليه من اجل البقاء في الدنيا وأخذ كماله منها أن يسير بنظام أهل الدنيا.

   فهذه الظواهر الثلاث يجب الالتزام بها ، والالتزام بها لا يضر بباطن المريد ، لأن الروح عند انطلاقها وتحررها من عالم الوهم واتصالها بالمحل الأعلى لا يصل إليها شيء من العوالم الدانية الموجود فيها الإنسان ، إنما كل ما يقع يكون على النفس وهذا لا يضر بكمال الروح قطعاً وهو المنظور في ذلك.

   وهنالك أقسام أخرى للحفاظ على الظاهر وهي أعلى من الأولى ولكن يصعب على أصحاب العرفان العمل بها فضلاً عن أصحاب الطرق الأخرى ، ومنها حفظ الظاهر مع النفس وهو من أعلى مستويات الحفاظ على الظاهر وهو يحتاج إلى مستوى عقلي عالي ، حيث يحفظ الإنسان ظاهره أمام نفسه ، وذلك بإيهام النفس بظواهر توجب القناعة النفسية بها ومن ثم العمل بها. أما المستوى الآخر وهو أعلى أنواع الحفاظ واعني به حفظ الظاهر مع الحق. وهذا لا يدخله إلا النادر من العارفين ويكشفه الحق لأهله.

   وكل هذه الأقسام من الظواهر والحفاظ عليها ليست من الكمال الخاص وإنما من اجل البقاء في الظاهر وبالتالي الحفاظ على بقاءه.

    هذا ، وإن للحفاظ على الظاهر فوائد عديدة لأصحاب الباطن منها:

   الفائدة الأولى : وهي الحفاظ على الباطن ، حيث بقاء الظاهر يحجب الباطن فيكون الظاهر بذلك إطاراً يحجب عن كشف الحقائق ، وهذا من الفوائد الجليلة.

   الفائدة الثانية : يُسهّل على الإنسان دخول السفر الرابع ، فالعارف إن أراد النزول للخلق وجب أن يلبس لباسهم وأعظم لباس هو الظاهر بأي قسم من أقسامه.

   الفائدة الثالثة : إن الحفاظ على الظاهر يخفف من وطأة المصاعب على العارف ، وغيرها من الفوائد الكثيرة.

   بل على العكس من ذلك فإن بعض من تركوا الظاهر توقف كمالهم وذلك لالتفاتهم لغير الحق سبحانه وهذا في بداية الطريق ، إذ كمالية الظاهر قائمة  في الطريق. ويبقى الظاهر مع الإنسان إلا أن يشاء الحق ، أي لابد من بقاء ظاهر لان الحق تجلى في عباده لعباده سواء كان الظاهر القائم أو غيره مما سيأتي كما تقول الروايات . فيبقى الإنسان في الظاهر مهما وصل إلى منازل عالية في الكمال.

     واعلم أن الظاهر يشمل كل ما موجود في الدنيا من ماديات ومعنويات فكل العلوم هي من الظواهر وكل ما وصل إليه الإنسان أو ما يصل إليه فهو كله من الظواهر. لكن المطلوب منها ما كان يحفظ ظاهر الإنسان فقط ، أما الزيادة فيجب على الإنسان المريد لطريق التكامل تجنبها لأنها تُعد من الدنيا ، والطريق هو طريق تجرد ، فيجب التجرد من الدنيا ، وهنا تكمن الصعوبة حيث الجمع بين التجرد والبقاء ، وكما يقول شيخنا (أعلى الله مقامه ) : ) لا يجمع بين الظاهر والباطن إلا من عصم بالعصمة الواجبة (. وطبيعة الصعوبة هي أن الإنسان يرى التناقض ومثالاً على ذلك ، إن الإنسان يصعب عليه أن يكون داخل الدار وخارجه في آن واحد ، إلا أن يكون اثنين وهذا متيسر في البـاطن ولكن الأشكل هي الحجابية ، أي  لو كان الأول يحجب عن الثاني أو العكس فلا يكون إلا بتوفيق خاص من الحق تعالى ، لكن الأمر بيد الإنسان الكائنة بيد الحق لان النفس كثيراً ما تميل إلى الدنيا من اجل بقاءها. وهذا من ضمن الأسباب التي جعلت العرفاء القدماء يقطعون علاقتهم بالدنيا ويلجئون إلى العزلة عن المجتمع ، وإن كان هذا يؤدي إلى إضرار بالمجتمع إذ ستبقى البشرية في غفلة من أمرها ، وليس هذا ما أُريدَ منهم.

      وعليه فالحفاظ على الظاهر جزء من الباطن والباطن يستلزم وجود ظاهر يدل عليه ، فبقاء الظاهر ملازم لبقاء الباطن.

( وله الحمد )

 

اترك تعليقاً