العامل الصالح في البيئة غير الصالحة
هذا ما يتعذر به بعض الصالحين، حيث أنهم يرون أن من الصعب أو المتعذر عليهم العمل في البيئة غير الصالحة، وهذه الصعوبة تكمن في عدة جهات:
الأولى: أن العمل في البيئة غير الصالحة يسبب ضغط وصعوبة على العامل الصالح، ما يؤدي الى الحد من قدرته العملية، وبالتالي عدم وجود نتائج معتدٍ بها من عمله.
الثانية: إن العمل في هكذا بيئة قد يكون غير مبرئ للذمة أمام الله تبارك وتعالى.
الثالثة: أن الفرد الصالح الذي ينخرط في العمل في البيئة التي لا تناسب ثوابته، قد يؤدي عمله ذاك الى تردي صلاحه ونزول مستواه، وذلك بما للبيئة من تأثير على الفرد.
أقول: إن هذا المنطق صحيح من الجهة التي نظر لها هذا الصالح، لكن حين النظر الى المساحة الأوسع والأشمل قد يتغير الحكم، ومن ذلك أن الفرد الصالح بعد تمكنه من الصلاح تترتب عليه مسؤولية إصلاح الغير، نعم… بالقدر المتيسر لديه، أي بالأمور والجوانب التي صلح هو فيها.
وعليه فإن مثل هذا الفرد يكون وجوده في البيئة ناقصة الصلاح أكبر أثراً وأكثر ثمراً من وجوده في البيئة الصالحة، كذلك أن كل صالح بعد صلاحه تتولد في داخله داعية الإصلاح، وهي غالباً ما تكون لا إرادية، فالمفروض أن وجود هذا الصالح في البيئة غير الصالحة هو الوجود الصحيح له، حيث مواطن الاصلاح وافرة.
ثم لو أن كل صالحٍ ترك البيئة الفاسدة لأنها لا تناسب أفكاره ومرتكزاته، فسوف تمسي أكثر المواطن الاجتماعية خالصة الفساد لا تشوبها شائبة الصلاح، وهذا ما لا يقبله كل انسانٍ صالح.
أما بالنسبة للجهات التي طرحها الفرد الصالح والتي أعتبرها مسوغات للابتعاد عن الساحة غير الصالحة، فأعتقد أنها قابلة للتلافي والخروج من سلطانها، وذلك ليس بأكثر من أن يجعل هذا الفرد الاصلاح في تلك البيئة من ضمن أهدافه، عندئذٍ يستحيل أن يطرأ عليه النزول في مستواه بل يكون في تصاعد مستمر بما تُعطيه تلك الضغوطات التي تواجهه، إلا أن يبتعد هو عن هذه الغاية، ثم إن كانت هذه الغاية ضمن عمله فوجوده في هذه البيئة سيكون مبرئ للذمة ومباركاً من قبل الحق سبحانه، أما قول الصالح من أن وجوده في تلك البيئة يحد من قدرته العملية ويؤدي آخراً الى عدم وجود نتائج معتبرة، فأعتقد أنه نَظَر بعين واحدة، لأن عمل الإصلاح في البيئة الفاسدة أو ناقصة الصلاح هو ارتقاء بهذه البيئة الى ما هو أصلح وأكمل لها وبالتالي سينعكس هذا الصلاح الى عموم عمل تلك البيئة.
إذن ليس من العدل أن يطلب الصالح ترك بيئته العملية بسبب أنه صالح أو أن بيئته غير صالحة أو أن العاملين فيها غير صالحين. هذا من جهة.
أما لو نظرنا من جهة أخلاقية، فنقول: أن الحق سبحانه عندما يوجد عبده الصالح في بيئة ناقصة الصلاح فإنه يتوقع منه أن يُصلح ما يراه فاسداً في تلك البيئة، لا انه يطلب تبديل تلك البيئة أو تغيير موقعه فيها، فإنه كما هو المعهود والمعروف أنه سبحانه يوِجد العبد في المكان الذي يراه أنسب للعبد إن استغله العبد ولم يظلم من استحقاقه شيئاً.
إنما ينظر العبد الصالح المطيع لمولاه عندما يوجده مولاه في بيئة أو عملٍ ما، الى الأبواب التي يستطيع أن يصلح منها ما يحتاج الى اصلاح، والى المواطن التي يُحصّل منها رضا ربه من هذه البيئة، وليس ينظر الى نوافذ الهروب من عمله!.
إن وجود الفاسدين والمنافقين في المؤسسة التي تعمل بها ليس مسوغاً للتخلي عن تلك المؤسسة، وتركها مرتعاً لهؤلاء بل المفروض هو العكس تماماً، يجب أن يكون داع للثبات والوقوف على عملك.
ولا يتوهم أحدنا إن ترك العمل في البيئة الناقصة هو من قوة الايمان، بل هو من ضعف الإيمان.
عندما يوجِد الرب سبحانه العبد الصالح في البيئة العملية الشاقة والتي تكون على خلاف آماله وتمنياته، إنما هو تقوية لذلك العبد وزيادة في عبادته وطاعته لربه، لأن الاصلاح هي العبادة التي اصطفاها الله لأنبيائه وأوليائه، والله تبارك وتعالى لا يطالب الفرد بأكثر مما لديه من مساحة وقدرة، فلا يطالب عبده بكل ما يريد ولا كل ما يتمنى تحقيقه ذلك العبد من الاصلاح. لكني أظن إن المسألة أعني مسألة طلب ترك العمل في هكذا بيئة، هي ليست أكثر من عدم تحمل الضغط النفسي ومحاولة الابتعاد عن الصعوبات، لذلك يلجأ بعض الصالحين الى ترك العمل في البيئة التي لا توافق ثوابتهم ومرتكزاتهم.
ربما يقول أحدهم، إننا يئسنا من المحاولة، حاولنا أن نتحمل كل الصعوبات لأجل إصلاح بيئتنا التي نعمل فيها لكن دون جدوى.
أقول: إن كل المصلحين لبثوا سنيناً طوال في دعوة أقوامهم وإرشادهم الى الصلاح ولم يكلوا ولم ييأسوا على الرغم مما واجههم من الظروف الشديدة القسوة والمثبطة للهمة والمضعفة للإرادة، وحتى لو فرضنا أنهم لا يستجيبون الى الصلاح فإن وجود الصالح في البيئة الفاسدة هو سبب رئيس في إبطاء تسافل تلك البيئة وإن لم يصدر منه عملاً البتة، وهذا محسوب عند الحكيم جل جلاله، فعندما تكون مانعا عن توسع رقعة الفساد، أو عن النزول والتسافل فإن ذلك عملا لا يقل أهمية عن التسامي والتصاعد ببيئتك.
إن وجود المنافقين والانتهازيين وسراق الجهود وأصحاب الأقلام السوداء والمتملقين ومن كان في طبقتهم، في عملك هو تنوع وإثراء لعملك الحقيقي، فهم أبواب تتقرب من خلال اصلاحهم لله تعالى، وإن ما يسببونه لك من عقبات وعرقلات في عملك فهو تقويم وصقل لشخصيتك، هو تقوية لإرادتك وعزيمتك، ولا ينظر من هذه الزاوية إلا من أراد الإفادة والاستفادة.
إن عدم تأثير وعظك ونصحك اليوم ليس فيه أي دلالة على أن نفسك كلامك لا يؤثر في يوم آخر، ليس هنالك ملازمة.
لكن ذلك كله يتطلب أن يكون إصلاحك لبيئتك العملية هو من ضمن أهدافك الرئيسة في تلك البيئة أو من ضمن أسباب انتمائك الى هذه الساحة أو هذه المؤسسة، وليس أنه عمل ثانوي والمهم هو ظهوري وسمعتي وما أقبضه آخر الشهر.
وله المنة
كنتم ولازلتم معينا لاينضب سيدي ومولاي.
جزاكم الله تعالى كل خير
ادامكم الله تعالى ذخرا للإسلام واهله
ادام الله تعالى وجودك