من الصفات والشرائط التي ينبغي أن تتوفر في مَن يروم العمل في ساحة الحق، والتي تؤهله لأَن يكون من أهل التقدمة للحق سبحانه، ويكون ما يقدمه ظرفاً طاهراً لحمل الفاعلية الإلهية، وتجسيد الإرادة الإلهية فيه، اذ لا فاعلية على وجه التحقيق إلا للحق سبحانه، ولا مؤثر على وجه الحقيقة في دائرة الوجود الا هو جل جلاله، وما أعمالنا إلا أواني لحمل ارادته على قدر طهارتها ونقائها وخلوها من المصالح والفوائد الدانية، وجب ان تتوفر في مريد العمل صفات وشرائط يستفيد منها استمراريته في هذه المرتبة دون السقوط وقدرة على التعامل مع ما يعرض له من ملازمات تلك المرتبة.
ومن أهم هذه الشرائط هي:
أولا:ً أَن يكون طاهر القلب من كل شوائب الطمع والإرادة لغير الحق. فإن وجود أي إرادة مزاحمة لإرادة العاملة، فسوف تدخله في نظام العمل الوهمي وتقيده في هذه المرتبة، وقد يصاحب ذلك نزول، وبالتالي خروج من شرف هذا المقام.
ثانياً: ان يفهم الإشارات الإلهية. وهذا باب قائم بذاته. فإن فِهم الإشارات الإلهية بحر يحتاج خائضه الى الكثير من التسليم وتقديم العجز، ومن ثم يتعامل مع أوضح الإشارات الإلهية ويبني عليها ويتفاعل مع ومضاتها، ثم يتوسع في هذا الباب من خلال ما يُعطى من مساحة في ذلك.
ثالثاً: أن يكون عليماً بآداب الحضرة ملماً بفروعها. فليس ساحة العمل كساحة المعرفة، فغالباً ما تذهب المعرفة بحسن الأدب، وخاصة بعد أن تنكشف للعارف اسرار الربوبية. وعلى ذلك وجب أن يوطَّن العامل نفسه على آداب التعامل مع الحق بإظهار أَقصى مراتب العبودية، فينفي عن قلبه أي ارادة في حضرة الحق، ولو كانت إرادة العمل لله تعالى، فإن ذلك من سوء الادب، ولا يحظر في قلبه أي سؤال في الحضرة الإلهية، إنما يكون عبارة عن اسماع متعددة بمراتب متفاوتة، ولا يُقيّد الحق بمعارفه ومعتقداته، فإنه انما يقيد نفسه في ذلك المشهد، ولا يحتمل شيئاً مما قد يصل إليه، فأن كل هذه قيود، وسوء أدب في حضرة مولاه.
رابعاً: ان يكون متمكناً من الخواطر. فالحريُّ لِمَن أراد الخوض في مقام العمل أن لا يكون قلبه مرتعاً لأصناف الخواطر، بل يجب أَن يغلق أبواب الخواطر إلا الباب الذي بينه وبين الحق جل جلاله، وحتى الخواطر التي يراها العامل أَنها صادرة من جهة او مرتبة الهية إن كانت تؤدي الى خرق الأدب أو البُعد عن غايته الجزئية؛ حينئذ ينبغي عليه أَن يسيطر عليها ويعالجها، إنما يأخذ من الخواطر ما كانت بمرتبته التعاملية.
وفي بعض الأحوال النفسية تصدر خواطر تنافي معتقداته الذوقية بسبب نزول مؤقت؛ حينئذٍ لا بدَّ أَن يكون متمكناً منها، ولا تؤثر على كيانه أو تحرفه عن غايته.
خامساً: أن تكون لديه معرفة ولو اجمالية بذوق مولاه، أقصد الجهة الإلهية التي يتعامل معها، سواء أكانت مرتبة أم وجهاً أم احدى حضرات الصفات، حينها يجب أَن يتوفر العامل على معرفة ذوق جهته، ولو في أدنى مراتبها، ومن ثمة يتصاعد من خلال ما يُكلف به من أعمال.
ان العمل مع أي جهة، سواء أكانت أرضية أم سماوية يقتضي أَن تكون لدى العامل دراية بذوق تلك الجهة لأجل مطابقة عمله مع إرادة جهته على الوجه المطلوب، وإِلا فإن عدم تحقق ذوق الجهة الإلهية في باطن العامل يجعل العامل يعتمد على ذوقه في أداء ما يطلب منه، وبالتالي يعطي مجالاً لاستحساناته الفكرية، وآثاره العملية، ورغباته العقلية للتصرف بطريقة أداء العمل والذي قد يُخرجهُ اقصد العمل عما أُريد منه؛ وبما أَن شأنيته في تبدل، وما يطرأ من أحول الذات على الحق، وجب على العامل الثبات على ما لديه من معارف الذوق، بل عين قلبه دائمة تجاه قبلته؛ لأجل أَن يساوق التبدلات الذوقية ولا يثبت على الذوق السابق، ويعمل على أساسه، وهذا من خصائص التكامل بالحق حيث لا توقف في كل ذلك الوجود الأقدس، وأَعني به المرتبة الكائنة تحت مرتبة ليس كمثله شيء.
سادساً: أَن صفة التسامح الإلهي يتولَّد عنها مساحة لدى العامل، وهذه المساحة كائنة في الجزئيات، وهذه من بحر الفتن، اذ فيها منزلق الاجتهاد، وتقديم العامل لمولاه ما يراه في مصلحة النظام الإلهي على أساس ما لديه من معارف ذوقية أو كشفية أو من خلال ما أُفيض عليه من تعاملاته السابقة مع الحق سبحانه. وقد أَوقفنا الحق سبحانه على اجتهادات أسلافنا ( رضوان الله تعالى عليهم ) وأرانا الحق الشطحات العملية المستفادة من تلك المساحة، والتي هي جزء من خصائص النظام القديم الذي اتخذها السابقون ( رضوان الله تعالى عليهم )، ورأينا آثار ذلك من الانحرافات في مواطن التردد والاضطرار ( وأَوقفني على مراكز اضطراري ) [دعاء الامام الحسين (ع) في يوم عرفة]. لذلك فعلى أساس ما حمل النظام الجديد الذي أَذن الحق بنزوله – ينبغي على العامل مهما بلغ من الرتب الربانية ان يجانب الاجتهاد، ويرجع في كل شؤون عمله إلى الحق سبحانه ويقف على الإرادة الإلهية الآنية من جهة عمله، ولا يرتكز على مخزونه من المعارف العملية، إنما العصمة الحقيقية من متغيرات عالم الإرادة هي بالرجوع إلى الحق في كل صغيرة وكبيرة، لكي يسلَم من مواطن العطب، اللهم إِلا من بلغ الانصهار في الوجه العملي للحق، حينها سيكون ما يصدر منه صادراً من الحق وألى الآن لم نرَ من بلغ تلك الرتبة.
سابعاً: أَن يكون العامل مستعداً للتضحية الكلية بما لديه قوةً وفعلاً لأجل مولاه.
إن من يصل إلى مرتبة حمل المسؤولية فهو متجرد ضرورة من التعلقات في مراتبها الأولى، والتي يتجاوزها طالب الكمال في مرحلة السلوك. إنما نقصد بالتضحية هنا ما تتناسب ومرتبة العامل، حيث بقاء النفس مع رقيها في هذه المرتبة والتي قد تحدو بالعامل أن يتمسك بما يراه او يُكلف به من خدمة الحق عن طريق انظمته. فهنا ينبغي على العامل أن لا يعطي المساحة لعمله ليترسخ في باطنه، حينها يصعب عليه التضحية به، فكثيراً ما يواجه العامل مواطن ومقامات تطالبه بالتضحية بما بناه من عمل أو من نظامٍ نَظَّمهُ للحق سبحانه وربما عمِل عليه عشرات السنين أو أكثر. فحينما يرى العامل أنّ مصلحة النظام الإلهي تستوجب أن يهدم كل عمله فعليه أن لا يتردد في ذلك، أو يأمره الحق بترك كامل مملكته التي ربما أصبحت جزءاً من كيانه، فعليه أن يسارع بالتجرد من ذلك.
وقد رأينا بعض العاملين في ساحة الحق من فشل في هذا.
فينبغي أن يكون العامل مستعداً للتضحية برتبته ومقامه وما وصل اليه من مدارج القرب من حضرة الحق، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون. إنما ارباب النقاء من اقتدروا على التضحية بما وعِدوا به ولم ينالوه بعد، من علو الرتبة والزلفى في حضرة الحق.
ثامناً: أن يفتح باب المعرفة التصاعدية بالإرادة الكلية للحق سبحانه.
إنّ تسلم مسؤولية العمل في ساحة الحق لهوَ من الوهب الإلهي التكاملي. فبه يُعَدّ العامل اعداداً تكاملياً تجريدياً تطهيرياً، وليس الغاية منه هو العمل ذاته، فالحق غني عن العاملين.
حينما يشاء الحق إتمام العامل لكماله المخصص المفاض من تلك المرتبة العملية يأذن الحق بخروجه من تلك المرتبة إلى ما شاء سبحانه، فوقوف العامل في مقام عمله والتوسع به عرضاً واغراء مقام التقدمة قد يقّيد العامل بمرتبته من خلال الاقتصار على استنزال المعارف العملية الصابة في كمال عمله، حينها سيحجب نفسه عن الإرادة الأعلى، ويُمسي حبيس ذلك المقام أو تلك المرتبة؛ نعم الحق جل جلاله يُنبَّه العامل حين الوقوف في مرتبة واحدة، لكن قد يكون وجود الموانع المستفادة من مملكته حاجباً عن الالتفاف لتلك التنبيهات، حينها سيُهجَرُ في تلك المرتبة، ويتوقف كماله الحق في مسيره الطولي.
ومن هنا ينبغي على العامل أن يفتح باب المعرفة التصاعدية بإرادة الحق؛ فيفاض عليه من عالم الإرادة ما يناسب مرتبته الآنية، وبها ينتقل من رتبة الى رتبة أخرى قد لا تشابه ما كان عليه، وقد تدفعه الى تغير كامل نظمه. فغايته ليس العمل إنما التقرب من الحق، وما العمل الا واسطة لتحقيق بعض مراتب القرب المنحصرة به.
تاسعاً: أن يقدم مصلحة عمله على مصالح نفسه.
الانسان لديه مصالحٌ وأهدافٌ يدفعه احتياجه الى تحقيقها، سواء أكان احتياجاً حقيقياً ام وهمياً. فالعامل الأكمل هو من يُقدّم مصلحة عمله على مصلحته حين التزاحم حتى يبلغ تلك المرتبة التي تنصهر بها مصالحه بمصالح عمله، حينها يكون عمله لله تعالى ولا تبقى بقية لنفسه.
أما تحقيق احتياجاته فيكون من خلال نظام التبادل الذي أقره الحق لِمَن هم في مقام العمل؛ وذلك حينما يقدمون مصلحة النظام على مصالح أنفسهم فتحقيق مصالحهم واحتياجاتهم سيكون من مسؤولية الحق جل شانه، فيكفيهم مؤنة الالتفات الى ذلك الجانب، ونحن هنا نتحدث عن أول مدارج العمل، لذلك في هذه الدرجة يقع التزاحم بين المصالح، وربما يقع الخطأ في تقديم الأدنى على الأعلى.
عاشراً: أن لا يحطّ من مرتبة خلوص عمله من خلال الانبساط وطرح ما لا يتسق وحضرة مولاه.
فقد يركن العامل إلى تلك الحظوة التي لمسها في تعاملاته من الحق سبحانه فتكون له باباً للانبساط في حضرة الحق؛ فيطرح مشاكله واحتياجاته، وهذا يدخل في باب الطمع، وكذلك سوء الادب في حضرة مولاه، فالواجب على العامل في هذه المرتبة من العمل ان لا يُدخل شؤونه الخاصة في ساحة عمله ولا يُلوّث ساحة طهرها بمصالحه، إنما يتحمل كل ما يأتي من الحق بصدر رحب وحسن ظنٍ عالٍ، حتى وإن أُعطي المساحة لطرح ما عنده، انما يطرح إشكالات عمله او عقباتها وليس اشكالاته الخاصة.
حادي عشر: أن يكون مستعداً طوال يومه، ليلاً ونهاراً، مفرّغاً قلبه من كل شاغل؛ لأجل استقبال النوازل الإلهية. فعدم استعداد القلب مانع من نزول الفيض الإلهي، فينبغي على العامل أن يكون مستعداً لتقبل الأمر الإلهي مهما كان نوعه أو مقداره حتى وإن خالف ثوابته العملية، انما يعمد الى تنفيذ ما ينقر قلبه من إرادة الحق.
ثاني عشر: قاعدة – إنْ استهدف الانسان مقاماً معيناً توقف عنده، إلا ان تدّاركه رحمة من ربه؛ لذلك على طالب الكمال أن لا يرضى بأي مقامٍ مهما كان علوه ومهما كانت مغرياته، انما هي حلقات في سلسلة لا نهائية الكمال، لذلك لا تقنع بما تُعطى، انما غاية وجودك هي تحقيق غاية الحق من وجودك.
لكن هذا لا يمنع أن تكون هنالك اهدافٌ جزئية مؤقتة وحين بلوغها يطلب التي تليها، وبالنتيجة لن يتوقف عند مقام ما، وعلى ذلك سيكون العامل أمام أمرين:
الأمر الأول: إما أن يستهدف المقام الذي يلي مقامه، فتكون غايته من مقام العمل بالكلية هو الوصول الى مقام الخدمة، فيرتقي من عامل الى خادم، وهو مقام من أسمى مقامات التعامل مع الحق سبحانه ولم ينله إلّا القليل.
فحينما يرى الحق تحقق إرادة العامل لدخول مقام الخدمة فسوف يهيئه لذلك.
الامر الثاني: أن لا تكون غايته من العمل بلوغ المقام الذي يليه او أي مقامٍ آخر، انما يُسلّم الامر لمولاه جملة وتفصيلاً، ويُوطّن نفسه على الرضى بما يأتي من جهته، حينها سيكون الفاعل في ذلك هي الإرادة الإلهية الخالصة. وهذا الامر على الرغم من علو شأنه إلا أن فيه صعوبة معتدٍ بها، والتي تتجلى في جهلنا بما يصدر عن الحق سبحانه ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) [المائدة : ١١٦] فهو يتطلب استعداداً عالياً.
ثالث عشر: أن من أعظم موارد سوء الادب في حضرة الحق حين ولوجها أن يكون عقل العامل وقلبه غير مفرّغة مما سوى الحق، حتى لو كان المستودع في قلبه هو العمل للحق سبحانه أو فكرة أو تساؤل أو خاطرة، انما الواجب حين دخول حضرة الحق خلو العقل والقلب من كل شيء، حتى يكون في غاية الاستعداد لتقبل ما يُلقى اليه بقبولٍ حسنٍ، فإن الحق إن رأى شيئاً في قلب العامل أعطاه على ما في قلبه، وربما حَجَبَ عن نفسه أعظم الفوائد.