مراتب العمل في ساحة الحق 1

مراتب العمل في ساحة الحق

يترتب العمل في الساحة الالهية على ثلاث مراتب أساسية تصاعدية، وتحوي كل مرتبة على جزئياتها الخاصة، وإن كانت قد تشترك بعض المراتب بمفردات محدودة، انما تتوسع تصاعديِاً في المرتبة اللاحقة. ويكون التنقل بين هذه المراتب على أساس الاستعداد العام المتولد من مجموع المسير السابق، ومقدار التفاعل الإلهي المبني على أصول القابلية من الطهارة، وقوة الإرادة، وفهم أصول التعامل مع الجهة العليا. وهذه المراتب هي:

المرتبة الأولى: مرتبة التهيئة العملية. بما أن أكثر المسير السابق لطالب الكمال هو مسير معرفي أو كشفي أو ذوقي، وابتعاد طالب الكمال عن ساحة العمل الإلهي؛ حينها يطلب بلسان احتياجه التهيئة والاعداد لدخول حضرة العمل، وبما أن للعمل في ساحة الحق نظامه الخاص الذي وضعه الحق لطالبيه، حينها ينتقل مريد العمل من النظام الكمالي العرفاني العام الى نظام يختلف كلياً عما كان عليه.

وفي هذه المرتبة تكون تهيئة العامل من ناحيتين:
الناحية العقلية: بما أن النزول الى ساحة العمل يعتمد اعتماداً كبيراً على نظام العقل، وبالخصوص العقل التدبري؛ فيقتضي حينئذٍ أن يُهيَئ عقل العامل وتُفتح له طرق العمل في ساحة الحق، وأساليب التعامل مع النوازل الكلية العملية، والتي ينبغي أن يستقبلها كعامل لا كعارف.

فيُدخل الحق العامل في مقام التهذيب العقلي، والذي به يكون زوال المرتكزات العقلية المعاشية، وتبدل القواعد العقلية، وبعض الشوائب العقائدية، وتتغير زاوية نظر العامل لما ينزل له أو يواجهه مما يُعرّضه الحق اليه، حينئذٍ سيقف على اسرار العمل، وعلى سير الأنظمة الإلهية الأرضية، وكيفية خلق نظاماً عملياً ومساوقته مع النظام العام. ويوقفه الحق على مجريات عمله وآثاره في دائرة الوجود، ومرتبة ما يصدر منه من عمل، وكل ذلك يكون من خلال ما يُكلِف به الحق هذا العامل عن طريق أبواب استسقائه التي اعتمادها بينه وبين مولاه.

الناحية القلبية: أن إعداد وتهيئة العامل على صعيده العقلي يضعف الجانب القلبي لديه؛ لذا كان من ضمن نظام التهيئة هو التكميل القلبي، لأنه موطن نزول المعارف العملية التي يبني عليها العامل ما يُطلب منه.

فيعمد الحق جل جلاله الى تجريد قلب طالب العمل من مزاحمات مقام العمل، والتي منها طلب المعرفة الإلهية التي كانت غايته في مقام السير العرفاني عموماً.

وكذلك من الأمور التي يحتاجها طالب العمل على مستوى القلب هو عدم طغيان العقل بتخطيطه وتدبيره على باب الصلة القلبية بالحق سبحانه، وأيضاً كثير من الأحيان يشاء الحق إفاضة خطوات عملية كاملة يريد تثبيتها في عمل العامل دون أن يمسها بأفكاره العقلية، ودون أن تخضع الى التحليل والاستنتاج وغيرها من آلات العقل، وهذه الفيوضات قد تكون لا عقلية، أعني منافية لنظام العقل؛ لنزولها من مراتب ما وراء أطوار العقل، فأن عَرَضَها العامل على عقله رفضها العقل جملةً وتفصيلاً لعدم قدرته على تعقلها، وهنا لا يستطيع أي جانب من كيان الإنسان استيعابها ألا الجانب القلبي، والذي لا يخضع لقوانين وأنظمة العقل، فإن أُهمل القلب من جهة العامل توقف نزول الفيض الأعلى، وهذا بداية موت العامل في مقام العمل.

المرتبة الثانية: مرتبة العمل الناقص. وهذه المرتبة تعتمد اعتماداً غالبياً على مرتبة التهيئة، ومقدار تجاوب العامل مع قوانين ونوازل تلك المرتبة، وهي من يقرر مستوى ونوع العمل أو المسؤولية التي سيُكلف بها العامل.
في هذه المرتبة يكلف العامل بعملٍ وهمي من جهة تأثيره في دائرة الكمال، فالغاية منه هو الإعداد الواقعي بالمعايشة التامة في مقام العمل، بحيث يصقل من خلاله صفاته وعقله العملي على أساس ما يُعرّضه الحق من التمحيص والضغط الذي يستخرج به القابليات العملية ويفتح به اقفال مقام العمل.
وفي هذه المرتبة يقف العامل على أساليب التعامل الإلهي مع أصحاب المسؤوليات، وأيضاً يقف من خلالها على بعض مراتب الذوق العملي الإلهي.
ويتصاعد العامل في هذه المرتبة من خلال تنوع الأعمال التي يُكلَفُ بها، والتي من خلالها يقف العامل على تغيرات التعامل الإلهي، ومعرفة التنقلات بين الوجوه الكلية، ونظام كل وجه من هذه الوجوه، وآداب حضرته، ويُكشف له أسباب مقبولية وعدم مقبولية أعماله على أساس المقياس المتوسط الذي اعتمده الحق لأرباب هذه المرتبة. ولا تخلو هذه المرتبة من نسبة عالية من المجاراة الإلهية والتي ستقل في المرتبة الثالثة.

المرتبة الثالثة: مرتبة العمل التام. حينما نقول العمل التام إنما هو نسبة إلى المرتبة الثانية العمل الناقص وإلا فلا وجود للعمل التام بالمعنى الواقعي إلا ما يصدر من الحق جل جلاله، فكل ما يصدر من الناقص هو ناقص ضرورة، ومهما بلغ ابن آدم من مراتب الكمال العملي يبقى عمله يمثل مجموع النقص الكياني أو النقص الباطني عموماً.

بعد أن يختم العامل المرتبة الثانية، ويتمكن من أساسيات العمل العام، ويقف على بعض مواطن الذوق الإلهي، بعدها ينتقل الى مرتبة العمل التام. وبها يُسلَم مسؤولية في عالم الشهادة والظهور، بما يتناسب وقابلياته الفطرية، ويكون مسؤولاً أمام الحق عن كل جزئيات عمله، ويحاسب حساباً آنياً على هفواته أو ما يشوب عمله من شوائب المرتبة، وقد يهدم الحق عمله إذا خلا من مرتبة الطهارة المفروض على أصحاب العمل التام، فيُقبل منه على قدر ما يحمل من طهارة، ويردّ عليه على قدر ما يحمل من لوث باطني، فلا يُرفع الى ساحة الطُهر والنقاء إلا ما كان طاهراً ونقياً، وما سواه فإساءة أدب في حضرة الحق.

وإن نظرنا من الزاوية الواقعية نجد أن مرتبة العمل التام ما هي إلا تجريد وتهيئة ومعرفة تصب في مقام تقوية العلاقة بالحق سبحانه.
وحينما ينتهي العامل من إكمال عمله الذي كُلف به يرتقي الى مسؤولية أكبر من السابقة، وهكذا الى أن يلج عالم التدبير العلوي.
وفي هذه المرتبة تقل نسبة المجاراة الإلهية، ويحاسب العامل على أغلب اخطاءه.

اترك تعليقاً