مرتبة الاختلاف ومراتب الائتلاف بين الأديان
تختلف الشرائع السماوية في المرتبة الاولى منها، وهي مرتبة التشريع. فترى لكل دينٍ مجموعة شعائر وإعمال تختلف عن الديانة الاخرى اختلافاً كلياً او جزئياً. وكل ديانة او قل كل أصحاب ديانة يدعون أنهم الحق وما دونهم باطل وأن الخالق لهم دون سواهم، ربما هذا شيء طبيعي ان نظرنا من زاويةِ أن مستوى التشريع لدى الديانات هي المرتبة الاولى او البدائية لكل ديانة والتي حوت على مساحة واسعة من التساهل البنائي. اما لو تقدمنا الى المرتبة الثانية من الديانات وهي مرتبة البناء الصفاتي للإنسان أعني مرتبة الاخلاق فسنجد أن كل الديانات تتقارب بهذه المرتبة وربما تتوحد، بل كلما انتقلت الديانة الى مرتبة عليا التقت اجباراً بالديانات الأخرى، وقد ينعكس هذا التقارب المعنوي على التخالف المادي فيقلل مفرداته أو على أقل تقدير يخفف من وطأة تلك المفردات، وهذا من لوازم طريق التوحيد؛ لأن كل النظم والقوانين التشريعية والتكوينية منطلقة من أساس التوحيد، وعليه كانت غاية كل ديانة هي الوصول الى نقطة تشريع تلك الديانة، والدافع او الجاذب هو عالم التشريع.
والعمل بما هو مشَرع لأنه مشَرع – وان كانت فيه أخطاء من جهة الفهم أو التطبيق- توصل الى مرتبة صدور التشريع سواء علمت الديانة بذلك أم لا، بل الواقع ان التغيرات والتجديدات التي تحصل للديانات تستهدف نقطة معلومة لدى المشرع وربما مجهولة لدى المتشرعة أعني اصحاب الديانات.
واعود الى نقطة الالتقاء الأولى وهي مرتبة الأخلاق والتي هي اعلى من مرتبة الاحكام حسب النظام التسلسلي للديانات، بما ان الأخلاق تتعامل مع الأسس التي تصدر منها كل أفعال الإنسان، ومنها الأفعال التشريعية الظاهرية، فإن الانصياع لأداء الأوامر العليا تقاس قيمته على الثوابت الداخلية للفرد والتي تسمى بالأخلاق، ثم أنها (الأخلاق) هي الرابط ما بين مرتبة التشريع ومرتبة الإيمان الثانية.
فعند النظر الى هذه المرتبة نرى وحدة او شبه وحدة بين الديانات سواء السماوية ام الأرضية، وهذه المرتبة هي من مراتب الفطرة الانسانية او هي من المراتب التي لها أُسس داخل كيان الانسان، فلا تجد اي من الديانات تحبذ التكبر او تمقت التواضع او تعتبر الرياء من كمال الشخصية او غير ذلك، فتجد شبه إجماع لدى الديانات على هذه المرتبة.
وعليه يكون التوحيد بين خطوط الديانات في مرحلة الأخلاق وما فوقها ممكناً جداً على العكس منه في المرتبة السابقة، فإن طلب التوحيد في مرتبة التشريع ربما شبه مستحيل، لأنه يستوجب أن تتخلى هذه الشرائع عن بعض مفرداتها التشريعية
ومن أسباب استحالة ذلك؛ أن الأحكام التشريعية الجزئية اغلبها لا أساس لها في الداخل التكويني للإنسان، نعم بعضها لها أساس مثل التوحيد وحرمة الظلم وغيرها من الكليات، لهذا استُخدم أسلوب الجزاء من الحساب والعقاب والعطاء على المرتبة الأولى، أي لعدم وجود حَكَم داخلي لصورة هذه المفردات، لكن في مرتبة الأخلاق وما فوقها هنالك حَكم في داخل الإنسان يقرر الخطأ من الصواب. مع الأخذ بعين الاعتبار ان المرتبة الاولى توصل الى المرتبة الثانية وتقوّمها وتزيل العقبات المانعة من دخول هذه المرتبة وتبين ان المرتبة الثانية ضمن خط الوصول للغاية وليس مرتبة قائمة بذاتها تُقّوم الشخصية الاستقلالية الانسانية فقط كما توهم بعض علماء الأخلاق، وابسط دليل على ذلك ان من يتمكن من المرحلة الثانية ولو تمكناً جزئياً يطلب تلقائياً المرتبة الثالثة والتي لا تمت الى تقويم الشخصية بأي صلة وانما ترى اقربيتها الى جنسية المرتبة الاولى.
نعم ربما وقع اللبس بسبب أن عالم الاخلاق هو برزخ ما بين الشخصية الظاهرية للفرد والشخصية المعنوية فيرتبط من أدناه بالشخصية الظاهرية ومن أعلى بالشخصية الحقيقية أو المعنوية للفرد.
خلاصة القول:
ان الاختلاف في الديانات هو في طرق الانطلاق او اسلوب الانطلاق الاولي ليس أكثر من ذلك، ثم يعود التوحد فيما بعد الانطلاق، لكن توقف أهل الديانات على بدايات هذه الديانات، هو ما وسع مسألة الخلاف والتخالف ومن ثم التباغض، بل أدى الى إهمال المراتب الاعلى لدياناتهم، وإلا فلو رفعوا رؤوسهم قليلاً لما وجدوا اختلافا إلا في مرتبة واحدة.
ان تعدد المبادئ لا يعني بالضرورة تعدد الغايات خاصة ان كان النظام العام أُسّس على الوحدة.
ان كل الديانات السماوية هي حلقات تختلف عن بعضها سعة وضيقاً وطولا وقصراً لكنها جميعاً تتصل بالحلقة التي فوقها من خلال الركائز الكلية المتوفرة في كل ديانة، وان تنزلنا فعدم الموانع عن ذلك في كل ديانة.
اذن التعذر عن الالتقاء بين الديانات او المذاهب المختلفة في مرحلة التشريع الأولي لا يعني استمرارية هذا التعذر، بل ما تفتقده في المرتبة الضيقة تجده في المرتبة الأوسع، هكذا هو النظام لمن تحقق منه.
ولا يوجد مانع في أن يكون هنالك اختلافاً في المرتبة الدنيا والتقاءاً في المرتبة الأعلى كما نختلف في أمور كثيرة في حياتنا، لان المهم هي الغاية وما يتيسر من السُبل الموصلة لتلك الغاية.
إن فطرة الانسان حينما تنظر الى أي فرد تنظر الى الزاوية الأخلاقية من ذلك الفرد ثم الزوايا الاخرى.
ان التشريع الأولي غايته إيصال الفرد من نطاق الإعمال والأفعال وتنظيم حياته المادية الى تنظيم واقعه الصفاتي والذاتي والذي هو عمل مرتبة الاخلاق وما يليها من مراتب التكميل، والصفات لا تنتمي الى ديانة معينة إنما ترجع الى الديانة الكلية أعني ديانة الفطرة.
ان نقاط التقاء البشرية بمختلف مشاربها أعظم وأكثر من نقاط اختلافها سواء نظرنا الى البعد الانساني التكويني او البعد الديني العام، فهي تلتقي بكل الجوانب الانسانية وكذلك تلتقي بأغلب المراتب الدينية فتلتقي في مرتبة الآداب وتلتقي في مرتبة الاخلاق وتلتقي في مرتبة الايمان وتلتقي في مرتبة الباطن وكذا في مراتب الواقع الاعلى، وفي اغلب عقائدها المكتسبة من صبغة الله تقدس اسمه.
وكلما قطع الفرد او المجتمع شوطاً في مسيره الديني كلما قَلّتْ نقاط الاختلاف والابتعاد وزادت نقاط الالتقاء الى ان تصل الى التوحد الكامل، حيث ان الغاية واحدة وان النظام المُسَيّرُ لأدراك تلك الغاية بُني على اساس وحدة الغاية.
ان كوني مسلماً وأخي مسيحياً او يهودياً او بوذياً، او كوني شيعياً وأخي سنياً او صوفياً او كوني اتبع الطريقة الفلانية في المذهب الواحد وكون اخي يتبع طريقة اخرى؛ لا يعني هذا ان لي حق البقاء وحدي دون اخي ولا يعني ان لي حق التقرب من الغاية دون اخي، فإن حق البقاء والترقي تقرره مجموع النظم التي وضعها الرب سبحانه لعباده.
نعم خطاب الحق تعالى لي في المرتبة الاولى التي هي المنطلق قد يختلف عما يخاطب به اخي في تلك المرحلة، – سواء أكان هذا الاختلاف بسبب الرب او بسبب العبد – فهو ناتج عن استحقاق الطريق الذي اخترته وما يحتاجه من زاد وملازمات تُسيّر أهلها على قدر فاعلية ذلك الطريق. لكن في المراحل الأخرى يتوحد الخطاب.
فعندما يتمكن المسلم أو المسيحي او اليهودي او البوذي او غيره من شريعته سوف يبحث تلقائياً عن المرتبة التي تليها وهي مرتبة تهذيب الصفات هنالك يلتقي الجميع ويجدون المحرم اخلاقياً محرماً على الكل والواجب الاخلاقي واجباً على الكل.
لكن نظرتنا القاصرة المقتصرة على المرتبة الاولى من الدين الكلي تجعلنا ننظر لمن يخالفنا على انه لا يستحق ما نستحقه نحن، وهو بدوره سينظر لنا بنفس النظرة الناتجة عن القيود التي تقيدنا بها وأبينا ان ننظر لما ورائها. عندئذ تتولد الأحقاد والبغضاء والتحاسد ثم القتل والتشريد، وليس سببه الدين او الشريعة إنما سببه قصر النظر لِديننا وعدم رؤيتنا للدين من كل زواياه، فأخذنا منه ما يناسب صفاتنا النفسية ومستوياتنا الدنية وتركنا وراء ذلك امراً عظيماً، والحصيلة ابتعاد الكل عن الغاية.
إذن الديانات وكل الديانات ليست متخالفة ومتنافرة كلياً – حتى مع كل ما حدث فيها من تغيير وتبديل – كما قد يتوهم البعض وانما تختلف في المرتبة الاولى، وهي مرتبة الثياب التي ترتديها لاختلاف اثواب الحق، لكنها تتفق وتتحد في المراتب الثانية اي ما بعد المرتبة البدائية.
ونسأل رب العباد أن يُوحّد عباده على كلمة سواء
وله الحمد
السلام على الفيض الالهي الطاهر.
ايدكم الله تعالى وسدد خطاكم